الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              جماع أبواب حجه- صلى الله عليه وسلم- وعمره

                                                                                                                                                                                                                              الباب الأول في الاختلاف في وقت ابتداء فرضه :

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ- رحمه الله تعالى- : «في ابتداء فرضه ، فقيل : قبل الهجرة ، وهو شاذ ، وقيل : بعدها ثم اختلف في سنته ، فالجمهور على أنها سنة ست ، قلت : وصححه الرافعي في السير ، وشبه عليه في «الروضة» ، ونقله في «المجموع» عن الأصحاب ، وصححه ابن الرفعة ، انتهى ، لأنها نزلت فيها قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله [البقرة - 196] وهذا ينبني على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض ، ويؤيده قراءة علقمة ، ومسروق ، وإبراهيم بلفظ :

                                                                                                                                                                                                                              «وأقيموا» ، أخرجه الطبري بأسانيد صحيحة عنهم .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : المراد بالإتمام : الإكمال بعد الشروع ، وهذا يقتضي تقدم فرضه قبل ذلك ، وقد وقع في قصة ضمام ذكر الأمر بالحج ، وكان قدومه على ما ذكره الواقدي سنة خمس ، وهذا يدل- إن ثبت- على تقدمه على سنة خمس ، أو وقوعه فيها قلت : وبهذا جزم الرافعي في الحج : فرض سنة خمس .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحافظ- رحمه الله تعالى- إن عكرمة بن خالد المخزومي ، قال : قدمت المدينة في نفر من أهل مكة ، فلقيت عبد الله بن عمر فقلت : إذا لم نحج قط أفنعتمر من المدينة ؟ قال : نعم ، وما يمنعكم من ذلك ؟ فقد اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عمره كلها قبل حجه ، قال : فاعتمر ، رواه الإمام أحمد- بسند صحيح- وهو في البخاري بنحوه .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بطال : هذا يدل على أن فرض الحج كان قد نزل على النبي- صلى الله عليه وسلم- قبل اعتماره ، ويتفرع عليه : هل الحج على الفور ؟ أو التراخي ؟ وهذا يدل أنه على التراخي ، قال أي ابن بطال : كذلك أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة ، دال على ذلك . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : وقد نوزع في ذلك إذ لا يلزم من صحة تقديم أحد النسكين على الآخر نفي الفورية ، انتهى ، وقيل : فرض سنة ثمان ، وقيل : تسع ، وقيل : عشر حكاها الحافظ في تخريج أحاديث الرافعي . [ ص: 443 ]

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : قال العلماء- رحمهم الله تعالى- فرض الله تعالى الحج على من استطاع إليه سبيلا ، وقد كان السبيل إليه ممنوعا بقوة المشركين .

                                                                                                                                                                                                                              وأيضا كانوا ينقلون الحج عن وقته ، فقد ذكر أنهم ينقلونه عن حساب الشهور الشمسية ، ويؤخرونه في كل سنة أحد عشر يوما ، فلم توجد الاستطاعة إلا عند فتح مكة سنة ثمان ، فمنع- صلى الله عليه وسلم- من التعجيل به ، أن المشركين لم يكونوا منعوا منه ، لعهود كانت لهم إلى آجال مضروبة ، وكانوا يشركون في تلبيتهم ، ويطوفون عراة ، وقد كان- صلى الله عليه وسلم- أراد أن يحج مقفله من تبوك ، وذلك بأثر الفتح بيسير ، ثم ذكر بقايا المشركين يحجون ، ويطوفون عراة فلم يرد النبي- صلى الله عليه وسلم- سماع إشراكهم في تلبيتهم ولا رؤيتهم عراة ، فأخر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الحج حتى نبذ إلى كل ذي عهد عهده ، وذلك في السنة التاسعة فحج بالمسلمين كما قال الماوردي في الحاوي في «باب السير» سير الفتح- عتاب بن أسيد بوزن أمير الذي أمره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على مكة- رضي الله تعالى عنه- فلما كان وقت الحج حج المسلمون والمشركون ، وكان المسلمون بمعزل يدفع بهم عتاب بن أسيد ، ويقف بهم ، لأنه أمير البلد .

                                                                                                                                                                                                                              وفي السنة الثانية وهي سنة تسع حج بهم أبو بكر- رضي الله تعالى عنه- وأرسل معه- صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب ، فنادى في الناس بنبذ العهد كما في سورة براءة ، وأنه لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، فلما زالت رسوم الشرك ، وسير الجاهلية حج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع سنة عشر ، وقال فيها : «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض» .

                                                                                                                                                                                                                              فائدة : قال في «زاد المعاد» : دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة بعد الهجرة خمس مرات ، سوى المرة الأولى ، فإنه وصل إلى الحديبية وصد عن الدخول إليها أحرم في أربع منهن من الميقات لا قبله فأحرم عام الحديبية من ذي الحليفة ، ثم دخلها المرة الثانية فقضى عمرته ، وأقام بها ثلاثا ، ثم خرج ، ثم دخلها المرة الثالثة ، عام الفتح في رمضان بغير إحرام ، ثم خرج منها إلى حنين ، ثم دخلها المرة الرابعة بعمرة من الجعرانة ، ودخلها في هذه العمرة ليلا وخرج ليلا فلم يخرج من مكة إلى الجعرانة ليعتمر ، كما يفعل أهل مكة اليوم ، المرة الخامسة في حجة الوداع . [ ص: 444 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية