الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              والراجح أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة التي وردت في الأحاديث المذكورة في المقام المحمود نوعان .

                                                                                                                                                                                                                              الأول : الشفاعة العامة في فصل القضاء .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : الشفاعة في إخراج المذنبين من النار .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الماوردي : اختلف في المقام المحمود على ثلاثة أقوال ، فذكر القولين الشفاعة والإجلاس .

                                                                                                                                                                                                                              والثالث : إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة . وقال القرطبي : وهذا لا يغاير القول الأول ، وأثبت غيره .

                                                                                                                                                                                                                              رابعا : هو ما رواه ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن أبي هلال أحد صغار التابعين ، أنه بلغه أن المقام المحمود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكون يوم القيامة بين الجبار وبين جبريل فيغبطه بمقامه ذلك أهل الجمع .

                                                                                                                                                                                                                              خامسا : وهو ما اقتضاه حديث حذيفة ، وهو ثناؤه على ربه ، ولكنه يغاير الأول أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              قال الإمام الرازي : القول الأول أولى ، لأن سعيه في الشفاعة يفيد إقدام الناس على حمده ، فيصير محمودا ، وأما ما ذكره من الدعاء فلا يفيد إلا الثواب ، أما الحمد فلا ، فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنه تعالى يحمده على هذا القول ؟ فالجواب أن الحمد في اللغة مختص بالثناء المذكور في مقابلة الإنعام فقط ، فإن ورد لفظ "الحمد" في غير هذا المعنى فعلى سبيل المجاز .

                                                                                                                                                                                                                              قال القرطبي وما حكاه الطبري عن فرقة ، منها مجاهد ، أنها قالت : المقام المحمود هو أن يجلس الله تعالى محمدا -صلى الله عليه وسلم- معه على كرسيه وروت في ذلك حديثا وعضد الطبري جواز ذلك بشطط من القول وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى ، وفيه بعد .

                                                                                                                                                                                                                              سادسا : وهو ما اقتضاه حديث ابن مسعود يشفع نبيكم رابع أربعة : جبريل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم ، لا يشفع أحد في أكثر مما يشفع فيه . وهذا الحديث لم يصرح برفعه ، قد ضعفه البخاري وقال : المشهور قوله -صلى الله عليه وسلم- : "أنا أول شافع" .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : وعلى تقدير نبوته ، فليس في شيء من طرقه التصريح بأنه المقام المحمود مع أنه يغاير حديث الشفاعة في المذنبين . وجوزه المحب الطبري .

                                                                                                                                                                                                                              سابعا : وهو ما اقتضاه حديث كعب بن مالك السابق ذكره فقال بعد أو أورده : هذا . [ ص: 384 ]

                                                                                                                                                                                                                              يشعر بأن المقام المحمود غير الشفاعة ثم قال : ويجوز أن تكون الإشارة بقوله : فأقول إلى المراجعة في الشفاعة .

                                                                                                                                                                                                                              - قال الحافظ : وهو الذي يتجه ، ويمكن رد الأقوال كلها إلى الشفاعة العامة ، فإن إعطاءه لواء الحمد ، وثناءه على ربه ، وكلامه بين يديه ، وجلوسه على كرسيه ، وقيامه أقرب من جبريل ، كل ذلك صفات للمقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضي بين الخلق .

                                                                                                                                                                                                                              وأما شفاعته -صلى الله عليه وسلم- في إخراج المذنبين من النار فمن توابع ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : واختلف في فاعل الحمد من قوله "مقاما محمودا" ، فالأكثر على أن المراد به أهل الموقف ، وقيل : النبي -صلى الله عليه وسلم- أي أنه يحمد عاقبة ذلك المقام المحمود بتهجده في الليل ، والأول أرجح لما ثبت في الصحيح عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- بلفظ "مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم" ، ويجوز أن يحمل على أعم من ذلك ، أي مقاما يحمده القائم فيه وكل من عرفه ، وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات ، واستحسن هذا أبو حيان وأيده بأنه نكرة ، فدل على أنه ليس المراد مقاما مخصوصا .

                                                                                                                                                                                                                              التاسعة : وبأن بيده لواء الحمد .

                                                                                                                                                                                                                              العاشرة : وبأن آدم فمن دونه تحت لوائه .

                                                                                                                                                                                                                              الحادية عشرة : وأنه إمام النبيين يومئذ .

                                                                                                                                                                                                                              الثانية عشرة : وقائدهم .

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة عشرة : وخطيبهم .

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة عشرة : وبأنه أول من يؤذن له في السجود .

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة عشرة : وبأنه أول من يرفع رأسه .

                                                                                                                                                                                                                              روى الإمام أحمد ، والبزار عن ابن الدرداء- رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة ، وأنا أول من يرفع رأسه " الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              السادسة عشرة : وأول من ينظر إلى الله تبارك وتعالى .

                                                                                                                                                                                                                              السابعة عشرة : وأول شافع ، وأول مشفع كما ثبت في الصحيح . والمراد بهذه الشفاعة- والله تعالى أعلم- الشفاعة في أهل الموقف حين يقرعون إليه بعد الأنبياء ، فيتقدم -صلى الله عليه وسلم- فيكون أول شافع ، وبين أنه -صلى الله عليه وسلم- أول مشفع لتحقق قبول الشفاعة ، وأنها غير مردودة .

                                                                                                                                                                                                                              - وقال النووي : معنى أول مشفع : يعني أول من تجاب شفاعته ، فقد يشفع اثنان ، ويجاب الثاني قبل الأول . [ ص: 385 ]

                                                                                                                                                                                                                              الثامنة عشرة : وبأنه يسأل في غيره ، وكل الناس يسألون في أنفسهم .

                                                                                                                                                                                                                              التاسعة عشرة : وبالشفاعة العظمى في فصل القضاء .

                                                                                                                                                                                                                              العشرون : وبالشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب .

                                                                                                                                                                                                                              الحادية والعشرون : وبالشفاعة في من استحق النار أن لا يدخلها .

                                                                                                                                                                                                                              الثانية والعشرون : وبالشفاعة في رفع درجات أناس في الجنة ، كما جوز النووي اختصاصه بهذه ، والتي قبلها ووردت به أحاديث في التي قبل ، وصرح به القاضي وابن دحية .

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة والعشرون : وبالشفاعة في إخراج عموم أمته من النار حتى لا يبقى منهم أحد .

                                                                                                                                                                                                                              ذكره السبكي .

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة والعشرون : وبالشفاعة لجماعة من صلحاء المسلمين يتجاوز عنهم في تقصيرهم من الطاعات ، ذكره القزويني في "العروة الوثقى" .

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة والعشرون : وبالشفاعة من الموقف تخفيفا عمن يحاسب .

                                                                                                                                                                                                                              السادسة والعشرون : وبالشفاعة فيمن يخلد في النار من الكفار أن يخفف عنه العذاب يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                              السابعة والعشرون : وبالشفاعة في أطفال المشركين أن لا يعذبوا .

                                                                                                                                                                                                                              روى ابن أبي شيبة ، وأبو نعيم بسند صحيح قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "سألت ربي في اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم ، فأعطانيها ، قال ابن عبد البر هم الأطفال ، لأن أعمالهم كاللهو واللعب من غير عقد ولا عزم" .

                                                                                                                                                                                                                              الثامنة والعشرون : وألا يدخل النار واحدا من أهل بيته فأعطاه ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              التاسعة والعشرون : وبأنه أول من يجيز على الصراط بأمته . كما في حديث أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- عند الشيخين يضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجيز من الرسل بأمته" .

                                                                                                                                                                                                                              الثلاثون : وبأن له في كل شعرة من رأسه ووجهه نورا ، وليس للأنبياء إلا نوران .

                                                                                                                                                                                                                              روى الحكيم الترمذي عن سالم بن عبد الله- رضي الله تعالى عنه- قال : بينما رجلان جالسان إذ قال أحدهما : لقد رأيت البارحة كل نبي في الأرض ، فقال الآخر : هات ، قال : رأيت كل نبي معه أربعة مصابيح : مصباح بين يديه ، ومصباح من خلفه ، ومصباح عن يمينه ، ومصباح عن يساره ، ومع كل صاحب له مصباح ، ثم رأيت رجلا قام أضاءت له الأرض ، وكل شعرة في رأسه مصباح ، ومع كل صاحب له أربعة مصابيح : مصباح من بين يديه ، ومصباح من [ ص: 386 ]

                                                                                                                                                                                                                              خلفه ، ومصباح عن يمينه ، ومصباح عن يساره ، فقلت : من هذا ؟ قالوا : محمد بن عبد الله .

                                                                                                                                                                                                                              قال كعب : ما هذا الذي تحدث به ؟ قال : رؤيا رأيتها البارحة ، قال : والذي بعث محمدا بالحق إنها لفي كتاب الله- تبارك وتعالى- كما رأيت .


                                                                                                                                                                                                                              الحادية والثلاثون : وبأنه يؤمر أهل الجنة بغض أبصارهم حتى تمر ابنته على الصراط . كما رواه الحاكم ، وأبو نعيم عن علي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : "إذا كان يوم القيامة" قيل : يا أهل الجمع ، غضوا أبصاركم ونكسوا ، فإن فاطمة بنت محمد تجوز على الصراط إلى الجنة ، فتمر ، وعليها ربطتان خضراوان .

                                                                                                                                                                                                                              الثانية والثلاثون : وبأنه أول من يقرع باب الجنة كما رواه مسلم والطبراني عن أنس- رضي الله تعالى عنه- .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وفي حديث أنس عند الطبراني "أنا أول من يقرع باب الجنة فيقول الخازن : من ؟ فأقول : أنا محمد فأقوم فأفتح لك ، لم أقم لأحد قبلك ولا أقوم لأحد بعدك" .

                                                                                                                                                                                                                              قال القطب الخضيري : وفي هذا التحديد على هذا الدوام خصوصية عظيمة ، وهو أن خازن الجنة لا يقوم لأحد غير النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك أن قيامه إليه -صلى الله عليه وسلم- جاء إظهارا لمرتبته ولا يقوم في خدمة أحد بعده ، بل خزنة الجنة يقومون في خدمته وهو كالملك عليهم ، وقد أقامه الله تعالى في خدمة عبده ورسوله حتى مشى إليه وفتح له الباب ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة والثلاثون : وبأنه أول من يدخل الجنة .

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة والثلاثون : وبعده أمته .

                                                                                                                                                                                                                              روى أبو نعيم عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "أنا أول من يدخل الجنة ، وأول من يدخل علي الجنة فاطمة ، ومثلها في هذه الأمة مثل مريم من بني إسرائيل" ، ولا يشكل على ذلك

                                                                                                                                                                                                                              ما رواه أحمد عن بريدة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لبلال : "بم سبقتني إلى الجنة ؟ فما دخلت الجنة إلا سمعت خشخشتك أمامي . . " الحديث رواه الإمام أحمد ، فإن ذلك كان في المنام ، كما رواه البخاري من حديث جابر مرفوعا "رأيتني دخلت الجنة ، فسمعت خشخشة ، فقيل : هذا بلال . . " الحديث . فعرف أن ذلك وقع في المنام .

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة والثلاثون : ومفتاح الجنة بيده -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                              رواه الترمذي ، والبيهقي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا ، وقائدهم إذا وفدوا ، وشافعهم إذا حبسوا ، وأنا مبشرهم إذا يئسوا ، ولواء الحمد بيدي ومفتاح الجنة يومئذ بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم يومئ . [ ص: 387 ]

                                                                                                                                                                                                                              على ربي ، يطوف علي ألف خادم كأنهم اللؤلؤ المكنون"
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              السادسة والثلاثون : وبالكوثر لا الحوض ، خلافا لابن سراقة وأبو سعيد النيسابوري ، فقد ورد "لكل نبي حوض" .

                                                                                                                                                                                                                              السابعة والثلاثون : وبأن حوضه -صلى الله عليه وسلم- أكبر الحياض .

                                                                                                                                                                                                                              روى ابن أبي حاتم ، وعثمان بن سعيد الدارمي عن عبادة بن الصامت- رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "جعل حوضي أعظم الحياض" .

                                                                                                                                                                                                                              الثامنة والثلاثون : وأكثرها واردا .

                                                                                                                                                                                                                              التاسعة والثلاثون : وبالوسيلة . وهي أعلى درجة في الجنة .

                                                                                                                                                                                                                              قال الإمام عبد الجليل بن عظوم : الوسيلة التي اختص بها -صلى الله عليه وسلم- هي التوسل ، وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون في الجنة بمنزلة الوزير من الملك بغير تمثيل ، ولا يصل إلى أحد شيء إلا بواسطته ، وسيأتي بيان جميع ذلك في باب بعثه وحشره آخر الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                              الأربعون : وبأنه سأل ربه [الوسيلة] .

                                                                                                                                                                                                                              الحادية والأربعون : وبأن قوائم منبره رواتب في الجنة .

                                                                                                                                                                                                                              روى البيهقي عن أم سلمة- رضي الله تعالى عنها- قالت : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "قوائم منبري رواتب في الجنة" .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه الحاكم من حديث أبي واقد الليثي .

                                                                                                                                                                                                                              الثانية والأربعون : وبأن منبره على ترعة من ترع الجنة .

                                                                                                                                                                                                                              روى ابن سعد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "منبري هذا على ترعة من ترع الجنة" .

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة والأربعون : وبأن ما بين قبره ومنبره روضة من رياض الجنة .

                                                                                                                                                                                                                              رواه الشيخان بلفظ "ما بين بيتي ومنبري" من حديث أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية