الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الثانية عشرة : وبتحريم شرب الترياق .

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة عشرة : وتعليق تميمة .

                                                                                                                                                                                                                              روى أبو داود عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قال : سمعت عبد الله بن عمرو- رضي الله تعالى عنه- يقول : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : "ما أبالي ما أتيت إن أنا شربت ترياقا ، أو علقت تميمة ، أو قلت الشعر من قبل نفسي"

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو داود : هذا كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة ، وقد رخص في الترياق لغيره .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام العلامة ولي الله الشيخ شهاب الدين بن رسلان في شرح سنن أبي داود "أبالي" بضم الهمزة "وما أتيت" بفتح التاء الأولى ، أي لا أكثرت لشيء من أمر ديني ، ولا أهتم بما فعلته إن أنا فعلت هذه الثلاثة أو شيئا منها . والترياق ليس المراد منه ما كان نباتا أو حجرا ، بل المختلط بلحوم الأفاعي ، يطرح منها رأسها وأذنابها ، وتستعمل أوساطها في الترياق ، وهو محرم لأنه نجس وإن أخذ الترياق من أشياء طاهرة ، فهو طاهر ، ولا بأس بأكله وشربه ، وممن رخص فيما فيه شيء من الحيات مالك ، ويقتضيه مذهب الشافعي لإباحة التداوي ببعض المحرمات .

                                                                                                                                                                                                                              والتميمة جمعها تمائم .

                                                                                                                                                                                                                              قال البيهقي : يقال إن التميمة خرزة كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات .

                                                                                                                                                                                                                              وفي النهاية : التمائم خرزات كانت العرب يرون تعلقها على أولادهم ، يتقون بها العين في زعمهم ، فأبطله الإسلام ، ورد عليهم اعتقادهم الفاسد والضلال ، إذ لا نافع ولا دافع إلا الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة عشرة : وبتحريم نزع لأمته إذا لبسها قبل أن يقاتل .

                                                                                                                                                                                                                              روى الإمام أحمد وابن سعد والدارمي عن جابر بن عبد الله- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم أحد : "ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل" .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه البخاري تعليقا ، والبيهقي عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- اللأمة بالهمز كما قيده صاحب المشارق وغيره : الدرع ، ونقل ابن مالك عن الزهري أنها السلاح كله ، وجمعها لأم كتمر ، وجمعت أيضا على لؤم كرطب على غير قياس .

                                                                                                                                                                                                                              كما قال الجوهري فإنها جمع لؤمة بضم اللام واستلأم الرجل لبس لأمته . [ ص: 417 ]

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة عشرة : وبتحريم الرجوع إذا خرج لحرب .

                                                                                                                                                                                                                              السادسة عشرة : وبتحريم الانهزام إذا لقي العدو ، وإن كثر عليه العدد ذكرهما ابن سراقة في الأعداد ، وأبو سعيد في "الشرف" .

                                                                                                                                                                                                                              روى السلمي في الحقائق عن الفيروذابادي في قوله تعالى : الآن خفف الله عنكم [الأنفال - 66] قال : هذا التخفيف كان للأمة دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ومن لا يثقله حمل أمانة النبوة ، كيف يخاطب بتخفيف اللقاء للامتداد ؟ وكيف يخاطب وهو الذي يقول : بك أصول بك أجول ؟ ومن كان به كيف يخفف عنه ، أو يثقل عليه ؟ ونقله الطيبي من حاشية الكشاف وأقره .

                                                                                                                                                                                                                              السابعة عشرة : وبتحريم مد العين إلى ما متع به الناس قال الله- سبحانه وتعالى- : ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى [طه - 131] .

                                                                                                                                                                                                                              وقال تبارك وتعالى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم [الحجر - 87 ، 88] . فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي الزجر عن التشوق إلى متاع الدنيا على الدوام ، فما الجمع بين ذلك وبين قوله "حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء ، وجعلت قرة عيني في الصلاة" .

                                                                                                                                                                                                                              والجواب : أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن متشوقا إلى زخرف الدنيا ولذاتها ولقد عرض عليه أن تكون له جبال مكة ذهبا تسير معه حيث سار فأباها ، واختار الافتقار إلى الله تعالى . معلوم أن الذهب يتحصل به جميع ما يقصده من أعراض الدنيا وزخارفها ، وتقلله من الدنيا أمر شائع ذائع أصحت به الأحاديث . وتقدم بعض ذلك في باب زهده -صلى الله عليه وسلم- إذا تقرر ذلك ، فحبه للنساء والطيب ليس من زهرة الدنيا والافتتان ، بل هو من أعمال الآخرة المحصلة لمعالي الدرجات ، وبيان ذلك أنه حبب إليه كثرة النساء ، ليطلعن على ما لديه من بواطن الشريعة وظواهرها ، فينقلنه ويعلنه للناس ، أو يكون التشريع بسببهن ، وخصوصا مما يستحيي الرجال من ذكره والسؤال عنه ، فإنهن كن يطلعن من أحواله -صلى الله عليه وسلم- ، وأقواله على ما لا يطلع عليه غيرهن ، فقد تعلمن عنه -صلى الله عليه وسلم- ما رأينه في منامه ، وحال خلوته من الآيات البينات على نبوته ، ومن جده واجتهاده ، ولم يشاهدها غيرهن ، فحصل من ذلك من الفوائد الأخروية ما لا يحصى وأما حبه للطيب ، فلأجل نزول الملك عليه ، وملازمته له بالوحي ، ولهذا كان يمتنع من تناول ما له رائحة كريهة ، وقال : إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ، فظهر بذلك أن حبه للنساء ، والطيب كان لمصلحة أخروية . [ ص: 418 ]

                                                                                                                                                                                                                              الثامنة عشرة : وبتحريم خائنة الأعين .

                                                                                                                                                                                                                              روى أبو داود والنسائي والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم عن سعد بن أبي وقاص (رض ) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح ، أمن الناس إلا أربعة نفر منهم عبد الله بن أبي سرح ، فاختبأ عند عثمان بن عفان ، فلما دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس إلى البيعة جاء به عثمان فقال : يا رسول الله ، بايع عبد الله ، فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه ، فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى ، فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على أصحابه فقال : أما منكم رجل رشيد يقوم إلى هذا الخبيث ؟ إني كففت يدي عن بيعته لتقتله ، قالوا : ما درينا يا رسول الله ما في نفسك ، هلا أومأت بعينيك ؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين" .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد نحوه عن سعيد بن المسيب مرسلا وقال في آخره : "الإيماء خيانة ليس لنبي أن يومئ" .

                                                                                                                                                                                                                              قال الرافعي : فسروا خائنة الأعين بالإيماء إلى مباح من قتل أو ضرب ، على خلاف ما يظهر ويشعر به الحال ، وإنما قيل له خائنة الأعين ، لأنه يشبه الخيانة من حيث يخفى ، ولا يحرم ذلك على غيره إلا في محظور .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن الأثير : معناها أن يضمر من نفسه غير ما يظهره ، فإذا كف لسانه وأومأ بعينه فقد خان ، وإذا كان ظهور تلك الحالة من قبل العين .

                                                                                                                                                                                                                              سميت خائنة الأعين أي : ما يخونون فيه مسارقة النظر إلى ما لا يحل ، والخافية بمعنى الخيانة ، وهي من المصادر التي جاءت بلفظ الفاعل كالعاقبة .

                                                                                                                                                                                                                              التاسعة عشرة : قيل وبتحريم أن يخدع في الحرب . قاله ابن القاص ، وخالفه المعظم لما رواه الشيخان عن جابر (رض) قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "الحرب خدعة" . واختلف في ضبط قوله "خدعة" "خدعة" فقيل بفتح الخاء المعجمة ، وضمها مع سكون المهملة فيهما ، أو بضم أوله وفتح ثانيه .

                                                                                                                                                                                                                              قال النووي-رحمه الله تعالى- : اتفقوا على أن الأول أفصح . وحكى المنذري لغة رابعة ، الفتح فيهما .

                                                                                                                                                                                                                              وحكى مكي ومحمد بن عبد الواحد لغة خامسة ، كسر أوله مع الإسكان ، وأصل الخدع : إظهار أمر ، وإضمار خلافه . وقال القاضي أبو بكر بن العربي : الخداع في الحرب يقع بالتعريض وبالكمين ونحو ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن المنير : معنى الحرب خدعة أي الحرب الجيدة لصاحبها ، الكاملة في مقصودها إنما هي المخادعة لا المواجهة ، وذلك لخطر المواجهة ، وحصول الظفر مع المخادعة بغير خطر . انتهى . [ ص: 419 ]

                                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : إذا كان أصل الخداع إظهار أمر ، وإضمار خلافه فيكون هو وخائنة الأعين سواء ، فيصح ما استنبطه ابن القاص ، لأنه لا فرق بينهما ، فالجواب بأنهما ليسا سواء ، وإن اتفقا في المعنى ، والفرق بينهما من وجه آخر ، وهو أن الإيماء والتلويح بالمرء ممن يحط من قدر فاعله ويسقط الهيبة ، فلذلك منع منه -صلى الله عليه وسلم- لشرفه وكمال منزلته ، وأما الإيهام في الأمور العظام كمكائد الحروب وخصوصا لأعداء الدين ، فإنها معدودة من قبيل حسن السياسات ، وكمال العقول ، ونهاية المعارف فهي لا تزري بصاحبها بل تزيده رفعة . أشار إلى ذلك إمام الحرمين ، ويؤيده ما في الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- "كان إذا أراد سفرا ورى بغيره" .

                                                                                                                                                                                                                              ويحتمل أن يفرق بوجه آخر ، وهو أن الخداع المأذون فيه مخصوص بحالة الحرب وما قاربها ، بخلاف "خائنة الأعين" فإنها في غير ذلك ، فإن القصة اتفقت في حالة المبايعة ، وليست بحالة الحرب .

                                                                                                                                                                                                                              العشرون : وبتحريم الصلاة على من مات وعليه دين من غير ضامن ثم نسخ التحريم ، فكان -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك يصلي على من عليه دين ولا ضامن له ، ويوفيه من عنده .

                                                                                                                                                                                                                              الحادية والعشرون : وبتحريم الإغارة إذا سمع التكبير . قاله ابن منيع .

                                                                                                                                                                                                                              روى الشيخان عن أنس (رض) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا غزا قوما لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر ، فإن سمع أذانا كف عنهم ، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم .

                                                                                                                                                                                                                              الثانية والعشرون : وبتحريم قبول هدية مشرك .

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة والعشرون : والاستعانة به .

                                                                                                                                                                                                                              روى البخاري في تاريخه عن حبيب بن يساف- رضي الله تعالى عنه- قال : خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجها فأتيته أنا ورجل من قومي ، قلنا إنا نكره أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم فقال : "أو أسلمتما ؟ " قلنا : لا قال : "إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين" .

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة والعشرون : وبتحريم الشهادة على جور .

                                                                                                                                                                                                                              روى الشيخان عن النعمان بن بشير- رضي الله تعالى عنهما- أنه قال : سألت أمي أبي لي بعض الموهبة من ماله ، ثم بدا له فوهبه لي ، فقالت : لا أرضى حتى تشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال : إن أمه بنت رواحة سألتني بعض الموهبة قال : "ألك ولد سواه ؟ " قال : نعم ، قال : فأراه قال : "لا تشهدني على جور" . وفي لفظ لهما فقال : "أكل ولدك نحلت" مثله ؟ فقال : لا قال : "فأرجعه" .

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية لمسلم : "لا أشهد على جور ، أشهد على هذا غيري" . وظاهر هذا الحديث : التسوية بين الأولاد في الهبة ، ويحمل الأمر في ذلك على الندب ، والنهي للتسوية . [ ص: 420 ]

                                                                                                                                                                                                                              وأما إذا فضل بعضهم على بعض ، فمذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك ، رحمهم الله تعالى- أنه مكروه وليس بحرام ، والهبة صحيحة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الإمام أحمد : هو حرام ، واحتج بقوله عليه الصلاة والسلام : "لا تشهدني على جور" ، واحتج الشافعي بقوله : "أشهد على هذا غيري" .

                                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : قاله تهديدا ، قلنا : الأصل في كلام الشارع غير هذا ، ويحتمل عند إطلاقه صيغة أفعل على الوجوب أو الندب ، فإن تعذر فعلى الإباحة ، وأما قوله -صلى الله عليه وسلم- : "لا أشهد على جور" ، فليس فيه أنه حرام ، لأن الجور هنا الميل عن الاستواء والاعتدال فكل ما خرج عن الاعتدال فهو جور ، سواء كان حراما أو مكروها ، وقد وضح بما قدمناه

                                                                                                                                                                                                                              وقوله -صلى الله عليه وسلم- : "أشهد على هذا غيري" دليل على أنه ليس بحرام ، فيجب تأويله على أنه مكروه كراهة تنزيه ، قاله النووي في شرح مسلم .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية