الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الخامس في لزوم محبته وثوابها وبعض ما ورد عن السلف في ذلك- صلى الله عليه وسلم-

                                                                                                                                                                                                                              قال تعالى : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره [التوبة 24] .

                                                                                                                                                                                                                              روى الشيخان عن أنس - رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «ثلاث [ ص: 430 ] من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما»

                                                                                                                                                                                                                              الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الشيخان عنه قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أحمد عن عبد الله بن هشام ، عن عمر - رضي الله تعالى عنه- أنه قال للنبي- صلى الله عليه وسلم- : لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي التي هي بين جنبي ، فقال له : «لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه»

                                                                                                                                                                                                                              فقال عمر : والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي فقال : «الآن يا عمر »
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الشيخان عن أنس - رضي الله تعالى عنه- أن رجلا أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال له :

                                                                                                                                                                                                                              متى الساعة ؟ قال : «ما أعددت لها» ؟ قال : ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ، ولكني أحب الله ورسوله ، فقال : «أنت مع من أحببت»
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الترمذي والنسائي عن صفوان بن عسال أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال «المرء مع من أحب»

                                                                                                                                                                                                                              وروى الترمذي عن علي - رضي الله تعالى عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أخذ بيد حسن وحسين - رضي الله تعالى عنهما- فقال : «من أحبني وأحب هذين وأمهما وأباهما كان معي في درجتي يوم القيامة» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني ، وابن مردويه ، عن عائشة وابن عباس - رضي الله تعالى عنهم- أن رجلا أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال : لأنت أحب إلي من أهلي ومالي ، وإني لأذكرك فما أصبر عنك حتى أنظر إليك ، وإني ذكرت موتي وموتك فعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإن دخلتها لا أراك ، فأنزل الله تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا [النساء 69] .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الأصبهاني في الترغيب عن أنس - رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «من أحبني كان معي في الجنة» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال : «إن من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله» .

                                                                                                                                                                                                                              وقال سهل بن عبد الله التستري - رحمه الله تعالى- : من لم ير ولاية الرسول- عليه الصلاة والسلام- في جميع أحواله ، ويرى نفسه في ملكه- صلى الله عليه وسلم- لا يذوق حلاوة سنته ،

                                                                                                                                                                                                                              لأنه عليه الصلاة والسلام قال : «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه»


                                                                                                                                                                                                                              الحديث . [ ص: 431 ]

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عساكر عن ابن عمر : أن أبا بكر - رضي الله تعالى عنه- قال :

                                                                                                                                                                                                                              للنبي- صلى الله عليه وسلم- : «والذي بعثك بالحق لإسلام أبي طالب أقر لعيني من إسلامه- يعني أبا قحافة ، وذلك من أجل أن إسلام أبي طالب كان أقر لعينك
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البيهقي والبزار عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما- أن عمر قال للعباس - رضي الله تعالى عنه- : أن تسلم أحب إلي من إسلام الخطاب ، لأن ذلك أحب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن إسحاق والبيهقي عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت : ما فعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالوا : خيرا هو بحمد الله تعالى كما تحبين ، قالت : أرونيه ، فلما رأته قالت :

                                                                                                                                                                                                                              كل مصيبة بعدك جلل
                                                                                                                                                                                                                              ، وروى ابن المبارك في الزهد ، عن زيد بن أسلم أن عمر - رضي الله تعالى عنه- خرج ليلة يحرس الناس فرأى مصباحا في بيت ، وإذا عجوز تنفش صوفا ، وهي تقول :


                                                                                                                                                                                                                              على محمد صلاة الأبرار صلى عليه الطيبون الأخيار     قد كنت قواما بكا بالأسحار
                                                                                                                                                                                                                              يا ليت شعري والمنايا أطوار

                                                                                                                                                                                                                              هل تجمعني وحبيبي الدار

                                                                                                                                                                                                                              تعني النبي- صلى الله عليه وسلم- فجلس عمر - رضي الله تعالى عنه- يبكي
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن السني في «عمل يوم والليلة» أن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما- خدرت رجله فقيل له : اذكر أحب الناس إليك يزل عنك فصاح : يا محمداه ، فانتشرت .

                                                                                                                                                                                                                              روى البيهقي عن عروة - رضي الله تعالى عنه- أن أهل مكة أخرجوا زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه ، فقال له أبو سفيان : أنشدك بالله يا زيد ، أتحب أن محمدا عندنا بمقامك تضرب عنقه ، وأنت في أهلك ، فقال زيد - رضي الله تعالى عنه- : والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه ، وأنا جالس في أهلي ، فقال أبو سفيان : والله ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن جرير والبزار عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما- قال : كانت المرأة إذا أتت النبي- صلى الله عليه وسلم- حلفها بالله ، ما خرجت من بغض زوج ، ولا رغبة بأرض عن أرض ، وما خرجت إلا حبا لله ورسوله .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد أن ابن عمر وقف على ابن الزبير - رضي الله تعالى عنهم- بعد قتله وقال : كنت والله فيما علمت صواما قواما تحب الله ورسوله . [ ص: 432 ]

                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات

                                                                                                                                                                                                                              الأول : قال القاضي : من علامة حبه- صلى الله عليه وسلم- إيثار حبه ، وإلا كان مدعيا ، فالصادق في حبه عليه الصلاة والسلام من تظهر علامات ذلك عليه ، وأولها : الاقتداء به ، واتباع أقواله وأفعاله ، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والتأدب بآدابه في عسره ويسره ، ومنشطه ومكرهه ، وشاهد هذا قوله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم [آل عمران 31] وإيثار ما شرعه وحض عليه على هوى نفسه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الترمذي عن أنس - رضي الله تعالى عنه- قال : قال لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «يا بني إن قدرت على أن تمسي وتصبح ليس في قلبك غش لأحد فافعل ثم قال لي : وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي فقد أحبني ، ومن أحبني كان معي في الجنة» .

                                                                                                                                                                                                                              فمن اتصف بهذه الصفات فهو كامل المحبة لله ورسوله ، ومن خالفها في بعض هذه الأمور فهو ناقص المحبة ، ولا يخرج عن اسمها .

                                                                                                                                                                                                                              ومن علامة محبته- صلى الله عليه وسلم- كثرة ذكره ، فمن أحب شيئا أكثر ذكره .

                                                                                                                                                                                                                              ومنها كثرة الشوق إلى لقائه- صلى الله عليه وسلم- فكل حبيب يحب لقاء حبيبه ، وقد قال أنس - رضي الله تعالى عنه- : وحين رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- يتتبع الدباء من حوالي القصعة : فما زلت أحب الدباء من يومئذ . وقد أتى الحسن بن علي وابن عباس وابن جعفر إلى سلمى ، خادمته ومولاة عمته صفية ، وسألوها أن تصنع لهما طعاما مما كان يعجب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، وكان ابن عمر - رضي الله تعالى عنه- يلبس النعال السبتية ، ويصبغ بالصفرة إزاره ، يفعل نحو ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              ومن علامة حبه بغض من أبغض الله ورسوله ومجانبة من خالف سنته وابتدع في دينه واستثقاله كل أمر يخالف شريعته قال تعالى : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله [المجادلة 22] وهؤلاء الصحابة- رضي الله تعالى عنهم- قد قتلوا أحباءهم ، وقاتلوا أبناءهم وآباءهم في مرضاته ، روى البخاري عن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول قال : يا رسول الله لو شئت لأتيتك برأسه يعني : أباه .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : حقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان إما باستلذاذه بإدراكه كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة ، والأطعمة والأشربة اللذيذة وأشباهها مما كل طبع سليم مائل إليها لموافقتها له ، أو استلذاذه بإدراك بحاسة عقله وقلبه معاني باطنة شريفة كحب الصالحين والعلماء وأهل المعروف المأثور عنهم السير الجميلة والأفعال الحسنة ، فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ ذلك ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان وهتك الحرم واحترام النفوس أو يكون حبه إياه لموافقته له من جهة إحسانه له وإنعامه عليه ، فقد جبلت [ ص: 433 ]

                                                                                                                                                                                                                              النفوس على حب من أحسن إليها .

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي : فقد استبان لك أنه- صلى الله عليه وسلم- مستوجب للمحبة الحقيقية شرعا بما قدمناه من صحيح الآثار ، لإفاضته الإحسان علينا ، من رأفته بنا ورحمته لنا وهدايته إيانا وشفقته علينا ، وإنقاذنا من ورطة الجهالة ، وإنه بنا رؤوف رحيم ، ورحمة للعالمين وقد جمع الله تعالى فيه جميع أسباب المحبة المتقدمة ، فإن الله تعالى جمله بجمال الصور الظريفة وبكمال الأخلاق والباطن وبمكارم الإحسان ، وكرائم الإنعام .

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي - رحمه الله تعالى- : فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفا . أو أنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذي بها قليل منقطع فمن منحه ما لا يبيد من النعيم ووقاه ما لا يفنى من عذاب الجحيم فهو أولى بالحب ، وإذا كان يحب بالطبع ملك لحسن سيرته ، أو حاكم لما يؤثر عنه من قوام طريقته ، أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه ، أو كرم شيمته ، فمن جمع هذه الخصال على غاية مراتب الكمال أحق بالحب وأولى بالميل ،

                                                                                                                                                                                                                              وقد قال علي - رضي الله تعالى عنه- في صفته- صلى الله عليه وسلم- : من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث في بيان غريب ما تقدم :

                                                                                                                                                                                                                              جلل : - بجيم فلام مفتوحتين فلام أخرى- أي هين حقير .

                                                                                                                                                                                                                              بكا : - بضم الموحدة- قصر لضرورة الوزن .

                                                                                                                                                                                                                              الأسحار : بهمزة مفتوحة ، فسين ساكنة ، فحاء مفتوحة مهملتين ، فألف فراء- خصتها بالبكاء لأنها أوقات خلوة وابتهال إلى الله تعالى ، قال لقمان لابنه : «يا بني لا يكن الديك أكيس منك ينادي بالأسحار وأنت نائم» .

                                                                                                                                                                                                                              المنايا : - بميم فنون مفتوحتين فألف فتحتية فألف- جمع منية : وهي الموت من منى الله عليك بمعنى قدر ، لأنه مقدر بوقت مخصوص .

                                                                                                                                                                                                                              أطوار : - بهمزة مفتوحة ، فطاء مهملة ساكنة ، فواو فألف فراء- حالات شتى مختلفة .

                                                                                                                                                                                                                              الدثنة : - بدال مهملة مفتوحة ، فمثلثة مكسورة ، فنون مشددة مفتوحة- . [ ص: 434 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية