الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              جماع أبواب بعض الحوادث الكائنة بالمدينة الشريفة في سني الهجرة غير ما تقدم

                                                                                                                                                                                                                              باب مبدأ التاريخ الإسلامي وأسقطت ذكر بقية الأبواب لكثرتها .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه أنواع

                                                                                                                                                                                                                              الأول : في بيان من ابتدأ بالتأريخ .

                                                                                                                                                                                                                              روى الحاكم في «الإكليل» عن ابن شهاب الزهري -رحمه الله تعالى- ، قال : لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأول .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ -رحمه الله تعالى- : هذا معضل ، والمشهور خلافه .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وهذا القول قدمه في الإشارة ، ورواه يعقوب بن سفيان -بلفظ- : «التأريخ من يوم قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة مهاجرا» قال الحافظ ، وابن عساكر : وهذا أصوب ، والمحفوظ أن الآمر بالتاريخ عمر بن الخطاب .

                                                                                                                                                                                                                              قال الشيخ -رحمه الله تعالى- في كتاب «التاريخ» : ويعضد الأول ما رأيته بخط ابن القماح في مجموع له ، قال ابن الصلاح : وقفت على كتاب في «الشروط» لأبي طاهر محمش الزيادي ذكر فيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرخ بالهجرة حين كتب لنصارى نجران ، وأمر عليا -رضي الله تعالى عنه- أن يكتب فيه لخمس من الهجرة ، فالمؤرخ إذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمر تبعه في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وقد يقال : إن هذا صريح في أنه أرخ سنة خمس ، والحديث الأول فيه أنه أرخ يوم [ ص: 37 ] قدومه المدينة ، [ويجاب بأنه لا منافاة؛ فإن الظرف ، وهو قوله : يوم قدم المدينة] ليس متعلقا بالفعل ، وهو أمر بالمصدر ، وهو التاريخ؛ أي : أمر أن يؤرخ بذلك اليوم؛ لأنه الأمر في ذلك اليوم؛ فتأمله ، فإنه نفيس جدا . انتهى كلام الشيخ -رحمه الله تعالى- .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري في تاريخه «الصغير» عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- قال : كان التاريخ في السنة التي قدم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري في «صحيحه» ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه عن سهل بن سعد -رضي الله تعالى عنه- زاد ابن أبي شيبة قال : أخطأ الناس العدد . انتهى؛ أي : لم يعدوا من مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا من متوفاه ، إنما عدوا من مقدمه المدينة .

                                                                                                                                                                                                                              قال مصعب الزبيري : وكان تاريخ قريش من متوفى هاشم بن المغيرة؛ يعني آخر تاريخهم .

                                                                                                                                                                                                                              قوله : «أخطأ الناس العدد» أي : أغفلوه وتركوه ، ثم استدركوه ولم يرد أن الصواب خلاف ما عملوا ، ويحتمل أن يريده ، وأنه كان يرى أن البداءة بالمبعث أو الوفاة أولى ، وله اتجاه . لكن الراجح خلافه .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : «مقدمه» أي : زمن قدومه ، ولم يرد شهر قدومه؛ لأن التاريخ إنما وقع من أول السنة .

                                                                                                                                                                                                                              قاله الحافظ- رحمه الله- .

                                                                                                                                                                                                                              وقال عمرو بن دينار : إن أول من أرخ في الكتب يعلى بن أمية وهو باليمن .

                                                                                                                                                                                                                              رواه الإمام أحمد بسند صحيح لكن فيه انقطاع بين عمرو ويعلى .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : ذكروا في سبب عمل التاريخ أشياء .

                                                                                                                                                                                                                              منها : ما رواه أبو نعيم- الفضل بن دكين ، بضم الدال المهملة وفتح الكاف وسكون التحتية وبالنون ، شيخ البخاري في «تاريخه» من طريق الشعبي أن أبا موسى -رضي الله تعالى عنه- كتب إلى عمر -رضي الله تعالى عنه- : أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ ، فجمع عمر الناس ، فقال بعضهم : أرخ بالمبعث ، وبعضهم : أرخ بالهجرة . فقال عمر : الهجرة فرقت بين الحق والباطل ، فأرخوا بها ، وذلك سنة سبع عشرة ، فلما اتفقوا . قال بعضهم : ابدأوا برمضان ، فقال بعضهم : بل المحرم فإنه منصرف الناس من حجهم ، فاتفقوا عليه . [ ص: 38 ]

                                                                                                                                                                                                                              ومنها : ما رواه الإمام أحمد ، والبخاري في «الأدب» وأبو عروبة الحراني في «الأوائل» والحاكم من طريق ميمون بن مهران -رحمه الله تعالى- قال : رفع لعمر صك محله شعبان ، فقال : أي شعبان : الماضي ، أو الذي نحن فيه أو الآتي ؟ ضعوا للناس شيئا يعرفونه من التاريخ .

                                                                                                                                                                                                                              فقال بعضهم : اكتبوا على تاريخ الروم ، فقيل : إنهم يكتبون من عهد ذي القرنين ، فهذا يطول ، وقال بعضهم : اكتبوا على تاريخ الفرس ، فقيل : إن الفرس كلما قام ملك طرح من كان قبله ، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا : كم أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة فوجده عشر سنين ، فكتب التاريخ من هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عساكر عن سعيد بن المسيب -رحمه الله تعالى- قال : أول من كتب التاريخ عمر لسنتين ونصف من خلافته ، فكتب لسنة عشر من المحرم بمشورة علي .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي خيثمة عن ابن سيرين قال : قدم رجل من اليمن فقال : رأيت شيئا يسمونه التاريخ يكتبون من عام كذا وبشهر كذا ، فقال عمر : هذا حسن فأرخوا ، فلما أجمع على ذلك قال قوم : أرخوا للمولد ، وقال قائل : للمبعث ، وقال قائل : من حين خرج مهاجرا ، وقال آخرون : من حين توفي ، فقال عمر : «أرخوا من خروجه من مكة إلى المدينة» .

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال : بأي شهر نبدأ ؟ فقال قوم : برجب ، وقال قوم : برمضان . فقال عثمان : أرخوا من المحرم ، فإنه شهر حرام ، وهو أول السنة ، ومنصرف الناس من الحج ، قال : فكان ذلك سنة سبع عشرة في ربيع الأول من الهجرة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الحاكم عن سعيد بن المسيب -رحمه الله تعالى- لما جمع عمر الناس سألهم : من أي يوم نكتب التاريخ ، فقال علي -رضي الله تعالى عنه- من يوم هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- وترك أرض الشرك ، ففعله عمر .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ -رحمه الله تعالى- : واستفدنا من مجموع هذه الآثار أن الذي أشار بالمحرم عمر ، وعثمان ، وعلي -رضي الله تعالى عنهم- .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث :

                                                                                                                                                                                                                              وقد أبدى بعضهم بالبداءة بالهجرة مناسبة فقال : كانت القضايا التي اتفقت له ويمكن أن يؤرخ بها أربع : مولده ، ومبعثه ، وهجرته ، ووفاته ، فرجح عندهم جعلها من الهجرة؛ لأن المولد والمبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين سنته .

                                                                                                                                                                                                                              وأما وقت الوفاة فأعرضوا عنه؛ لما يوقع تذكره من الأسف عليه فانحصر في الهجرة ، وإنما أخروه من ربيع الأول إلى المحرم؛ لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم ، إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة ، وهي مقدمة الهجرة ، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم ، فناسب أن يجعل مبتدأ . [ ص: 39 ]

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : «وهذا أقوى ما وقفت عليه في مناسبة الابتداء بالمحرم» .

                                                                                                                                                                                                                              قال الشيخ -رحمه الله تعالى- : وقفت على نكتة في جعل المحرم أول السنة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى سعيد بن منصور في «سننه» والبيهقي في «الشعب» بإسناد حسن ، عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال في قوله تعالى : والفجر [الفجر 1] قال : الفجر شهر المحرم ، وهو فجر السنة» .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ في أماليه : بهذا يحصل الجواب عن الحكمة في تأخير التاريخ من ربيع الأول إلى المحرم . بعد أن اتفقوا على جعل التأريخ من الهجرة وأن كانت في ربيع الأول .

                                                                                                                                                                                                                              روى البخاري في «تاريخه» عن عبيد بن عمير -رحمه الله تعالى- قال : المحرم شهر الله ، وهو رأس السنة ، فيه يؤرخ التاريخ ، وفيه يكسى البيت ، ويضرب فيه الورق .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر -رحمه الله تعالى- : ذكر أبو الحسن محمد بن أحمد الوراق المعروف ب : ابن . . . ] أن أول المحرم سنة الهجرة كان يوم الخميس ، اليوم الثاني من أيام سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة لذي القرنين . قلت : أي اليوناني ، لا الذي ذكر في القرآن . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية