الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ذكر مقتل فرعون هذه الأمة أبي جهل بن هشام وغيره

                                                                                                                                                                                                                              روى الإمام أحمد والشيخان وغيرهم عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : إني لواقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يميني وعن شمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار ، حديثة أسنانهما فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما ، فغمزني أحدهما سرا من صاحبه فقال : أي عم ، هل تعرف أبا جهل ؟ قلت : نعم ، فما حاجتك إليه يا ابن أخي ؟ قال : أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا ، قال : وغمزني الآخر سرا من صاحبه فقال مثلها ، فعجبت لذلك . قال : فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس وهو يرتجز :


                                                                                                                                                                                                                              ما تنقم الحرب العوان مني بازل عامين حديث سني     لمثل هذا ولدتني أمي



                                                                                                                                                                                                                              فقلت : ألا تريان ؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه ، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى برد ، وانصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه ، فقال : «أيكما قتله ؟ » فقال كل واحد منهما : أنا قتلته . قال : «مسحتما سيفيكما ؟ » قالا : لا ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السيفين فقال : «كلاكما قتله» وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ، والرجلان : معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء .


                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد ، والبيهقي ، عن ابن مسعود رضي الله عنه . وابن إسحاق عن معاذ بن عمرو ، والبيهقي عن ابن عقبة ، والبيهقي عن ابن إسحاق . قال معاذ : سمعت القوم وأبا جهل في مثل الحرجة وهم يقولون : أبو الحكم لا يخلص إليه ، فلما سمعتها جعلته من شأني فعمدت نحوه ، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أظنت قدمه بنصف ساقه ، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى ، حين يضرب بها ، قال : وضربني ابنه عكرمة -وأسلم بعد ذلك- على عاتقي فطرح يدي بجلدة من جنبي ، وأجهضني القتال عنه فلقد قاتلت عامة يومي هذا ، وإني لأسحبها خلفي ، فلما آذتني وضعت قدمي عليها ، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : وعاش بعد ذلك إلى زمن عثمان .

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي : زاد ابن وهب في روايته : «فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلصقت» كذا نقله عن القاضي في العيون . [ ص: 51 ]

                                                                                                                                                                                                                              والذي في الشفاء : وقطع أبو جهل يوم بدر يد معوذ بن عفراء ، فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألصقها فلصقت ، رواه ابن وهب . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : ثم مر بأبي جهل وهو عقير معوذ بن عفراء ، فضربه حتى أثبته وبه رمق ، وقاتل معوذ حتى قتل ، ثم مر عبد الله بن مسعود بأبي جهل فذكر ما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى ، فالتمس أبا جهل فلم يجده ، حتى عرف ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «اللهم لا يعجزني فرعون هذه الأمة» .

                                                                                                                                                                                                                              وقال صلى الله عليه وسلم : «من ينظر لنا ما صنع أبو جهل ؟ وإن خفي عليكم في القتلى فانظروا إلى أثر جرح في ركبته ، فإني ازدحمت أنا وهو يوما على مأدبة لعبد الله بن جدعان ، ونحن غلامان ، وكنت أشف منه بيسير ، فدفعته فوقع على ركبتيه فجحش في إحداهما جحشا لم يزل أثره به» .

                                                                                                                                                                                                                              قال عبد الله بن مسعود : فأتيته فوجدته بآخر رمق فعرفته ، وكان مقنعا بالحديد ، واضعا سيفه على فخذيه ، ليس به جرح ، ولا يستطيع أن يحرك منه عضوا وهو منكب ينظر إلى الأرض ، فلما رآه ابن مسعود طاف حوله ليقتله ، فأراد أن يضربه بسيفه ، فخشي أن لا يغني سيفه شيئا ، فأتاه من ورائه ، قال : ومعي سيف رث ومعه سيف جيد ، فجعلت أنقف رأسه بسيفي ، وأذكر نتفا كان برأسي حتى ضعفت يده ، فأخذت سيفه ، فرفع رأسه فقال : على من كانت الدبرة ؟ وفي رواية : لمن الدائرة ؟ قلت : لله ورسوله ، فأخذت بلحيته وقلت : الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله ، وفي لفظ : هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال : بماذا أخزاني ؟ قال : هل أعمد ، وفي لفظ : هل عدا رجل قتلتموه . أو غير أكار قتلني ، فرفعت سابغة البيضة عن قفاه ، فضربته فوقع رأسه بين يديه ، ثم سلبته .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عقبة : فلما نظر عبد الله إلى أبي جهل إذا هو ليس به جراح ، وأبصر في عنقه خدرا وفي يديه وكفيه كهيئة آثار السياط ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ، فقال : «ذلك ضرب الملائكة» .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن مسعود : ثم حززت رأسه ، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبي جهل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الله الذي لا إله إلا هو ؟ » وفي لفظ : الذي لا إله غيره ، فاستحلفني ثلاث مرات فألقيت رأسه بين يديه ، فقال : «الحمد لله الذي أعز الإسلام وأهله» ثلاث مرات ، وخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدا .


                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية : صلى ركعتين .

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي : إن ابن مسعود إنما جعل رجله على عنق أبي جهل ليصدق رؤياه ، فإن ابن قتيبة ذكر أن أبا جهل قال لابن مسعود : لأقتلنك ، فقال : والله لقد رأيت في النوم أني أخذت حدجة حنظل فوضعتها بين كتفيك بنعلي ، ولئن صدقت لأطأن رقبتك ، ولأذبحنك ذبح الشاة . [ ص: 52 ]

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عائذ عن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن لكل أمة فرعونا وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل ، قتله الله شر قتلة ، قتله ابنا عفراء ، وقتلته الملائكة ، وتدافه ابن مسعود» يعني أجهز عليه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي الدنيا في كتاب «من عاش بعد الموت» : عن الشعبي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إني مررت ببدر فرأيت رجلا يخرج من الأرض فيضربه رجل بمقمعة معه ، حتى يغيب في الأرض ، ثم يخرج فيفعل به مثل ذلك . ففعل ذلك مرارا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ذاك أبو جهل بن هشام ، يعذب إلى يوم القيامة كذلك» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني وابن أبي الدنيا في كتاب القبور ، واللالكائي في السنة ، وابن منده ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : بينما أنا سائر بجنبات بدر إذ خرج رجل من حفرة في عنقه سلسلة فناداني : يا عبد الله اسقني فلا أدري عرف اسمي أو دعاني بدعاية العرب ، وخرج رجل من تلك الحفرة في يده سوط فناداني : يا عبد الله! لا تسقه؛ فإنه كافر ، ثم ضربه بالسوط فعاد إلى حفرته ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم مسرعا فأخبرته فقال لي : «قد رأيته ؟ » قلت : نعم ، قال : «ذاك عدو الله أبو جهل ، وذاك عذابه إلى يوم القيامة» .

                                                                                                                                                                                                                              مقتل أبي ذات الكرش

                                                                                                                                                                                                                              روى البخاري عن الزبير بن العوام قال : لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص وهو مدجج لا يرى منه إلا عيناه ، وكان يكنى أبا ذات الكرش ، فقال : أنا أبو ذات الكرش ، فحملت عليه بالعنزة فطعنته في عينه فمات . قال هشام بن عروة : فأخبرت الزبير قال : لقد وضعت رجلي عليه ثم تمطيت ، فكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفها . قال عروة : فسأله إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياها ، فلما قبض عمر أخذها ، ثم طلبها أبو بكر فأعطاه إياها ، فلما قبض أبو بكر أخذها ، ثم سألها عمر فأعطاه إياها ، فلما قبض عمر أخذها ، ثم طلبها عثمان منه فأعطاه إياها ، فلما قتل وقعت عند آل علي ، وطلبها عبد الله بن الزبير فكانت عنده حتى قتل .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية