الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل [في اختلاف العلماء في حياة الخضر وموته]

وقد زعم قوم أن الخضر حي إلى الآن ، واحتجوا بأحاديث لا تثبت ، وحكايات عن أقوام سليمي الصدور ، ويقول أحدهم: لقيت الخضر .

فأما الأحاديث:

فمنها ما يروى عن أهل الكتاب: أن الخضر كان مع ذي القرنين ، وأنه سبق إلى العين التي قصدها ذو القرنين لما وصف له أن من شرب منها خلد في الدنيا ، فشرب منها فأعطي الخلد لذلك .

ومنها ما أخبرنا به علي بن أبي عمر الدباس ، قال: أخبرنا علي بن الحسين بن أيوب ، قال: أخبرنا أبو علي بن شاذان ، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد المزكي ، قال: حدثنا محمد بن إسحاق بن خريم ، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن زيد ، قال: حدثنا عمرو بن عاصم ، قال: حدثنا الحسن بن رزين ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال: لا أعلمه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: "يلتقي الخضر وإلياس في كل عام في الموسم ، فيحلق كل منهما على رأس صاحبه ويتفرقان عن هؤلاء الكلمات: "بسم الله ، ما شاء الله ، لا يسوق الخير إلا الله ، بسم الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله ، ما شاء الله ما كان من نعمة فمن الله ، ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله" .

ومنها ما روي عن الحسن البصري ، أنه ، قال: وكل إلياس بالفيافي ، ووكل [ ص: 362 ] الخضر بالبحور ، وقد أعطيا الخلد في الدنيا إلى الصيحة الأولى ، وأنهما يجتمعان في كل موسم في كل عام .

ومنها ما أخبرنا به إسحاق بن إبراهيم الختلي ، قال: حدثني عثمان بن سعيد الأنطاكي قال: حدثنا علي بن الهيثم المصيصي ، عن عبد الحميد بن بحر ، عن سلام الطويل ، عن داود بن يحيى مولى عون الطفاوي ، عن رجل كان مرابطا في بيت المقدس وبعسقلان ، قال:

بينا أنا أسير في وادي الأردن إذا أنا برجل في ناحية الوادي قائم يصلي ، فإذا سحابة تظله من الشمس فوقع في قلبي أنه إلياس النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتيته فسلمت عليه ، فانفتل من صلاته فرد علي السلام ، فقلت: من أنت رحمك الله؟ فلم يرد علي شيئا ، فأعدت القول مرتين ، فقال: أنا إلياس النبي ، فأخذتني رعدة شديدة خشيت على عقلي أن يذهب ، فقلت له: إن رأيت رحمك الله أن تدعو لي أن يذهب عني ما أجد حتى أفهم حديثك ، فدعا لي بثمان دعوات ، فقال: يا بر يا رحيم ، يا حي يا قيوم ، يا حنان يا منان ، . . . ، فذهب عني ما كنت أجد ، فقلت: إلى من بعثت؟ قال: إلى أهل بعلبك ، قلت: فهل يوحى إليك اليوم ، فقال: منذ بعث محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فلا .

قلت: فكم من الأنبياء في الحياة؟ قال: أربعة أنا والخضر في الأرض ، وإدريس وعيسى في السماء ، قلت: فهل تلتقي أنت والخضر؟ قال: نعم في كل عام بعرفات ، قلت: فما حديثكما؟ قال: يأخذ من شعري وآخذ من شعره ، قلت: فكم الأبدال؟ قال: هم ستون رجلا ، خمسون ما بين عريش مصر إلى شاطئ الفرات ، ورجلان بالمصيصة ، ورجلان بأنطاكية ، وسبعة في سائر الأمصار ، تسقون بهم الغيث ، وبهم ينصرون على عدوهم ، وبهم يقيم الله أمر الدنيا حتى إذا أراد أن يهلك الدنيا أماتهم جميعا .

وقد روي أنه كان في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم ، ورووا من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم إثبات حياة الخضر .

ومن حديث أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى الخضر ، وقال: ادع لرسول الله . وإن أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليا ، وابن عمر أثبتوا وجوده ، وأنه رآه عمر بن عبد العزيز . ورواه مسلمة ، ورباح بن عبيدة كلاهما عن عمر بن عبد العزيز .

[ ص: 363 ]

قالوا: ورآه إبراهيم التيمي ، وإبراهيم بن أدهم ، وأحمد بن حنبل .

وكل هذه الأحاديث لا تثبت ، والحديث الذي ذكرناه عن ابن عباس فيه الحسن بن زيد ، قال العقيلي: هو مجهول .

وفي الحديث الثاني السلام بن الطويل ، قال يحيى: ليس بشيء . وقال البخاري والرازي ، والنسائي ، والدارقطني: هو متروك الحديث .

وقال ابن حبان: يروي الموضوعات كأنه المعتمد لها .

قال: وعبد الحميد بن بحر لا يحل الاحتجاج به بحال ، وداود مجهول ، والرجل المرابط لا يدرى من هو .

وقد روى مسلمة بن مصقلة ، أنه رأى إلياس وجرى له معه نحو ما سبق .

وربما ظهر الشيطان لشخص فكلمه ، وربما قال بعض المتهمين لبعض أنا الخضر ، وأعجب الأشياء أن يصدق القائل أنا الخضر وليس لنا فيه علامة نعرفه بها ، وقد جمعت كتابا سميته «عجالة المنتظر بشرح حال الخضر» وذكرت فيه هذه الأحاديث والحكايات ونظائرها ، وبينت خطأها ، فلم أر الإطالة بذلك هاهنا .

قال أبو الحسين بن المنادي -ونقلته من خطه- عن تعمير الخضر وهل هو باق في الدنيا أم لا: فإذا أكثر المغفلين مغرورون بأنه باق من أجل ما قد روي ، وساق بعض ما قد ذكرنا ، ثم قال: أما حديث أنس فواه بالوضاع ، وأما خبر ابن عباس فضعيف بالحسن بن رزين ، وأما قول الحسين فمأخوذ عن غير أهل ملتنا مربوط بقول بعضهم: إن الخضر شرب من العين التي قصدها ذو القرنين ، موصول بما قيل: إنه الرجل الذي يقتله الدجال ، والمسند من ذلك إلى أهل الذمة فساقط لعدم ثقتهم .

وخبر مسلمة فكلا شيء ، وخبر رياح كالرياح ، ثم مد الله على السري وضمرة عفى الله عنهما .

وأين كان الخضر عن تبشير أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بالخلافة .

وهذه الأخبار واهية الصدور والأعجاز ، لا تخلو في حالها من أحد أمرين: إما [ ص: 364 ] أن تكون أدخلت من حديث بعض الرواة المتأخرين استغفالا ، وإما أن يكون القوم عرفوا حالها فرووها على وجه التعجب ، فنسبت إليهم على سبيل التحقيق .

قال: والتخليد لا يكون لبشر لقول الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون [21: 34] .

وأهل الحديث يتفقون على أن حديث أنس منكر الإسناد ، سقيم المتن ، بين فيه أثر الصنعة ، وأن الخضر لم يراسل نبينا ولم يلقه ولم يكن ممن عرض عليه ليلة الإسراء ، ولم يدركه ذكر في عهده بالبقاء ، ولو أنه كان في عدد الأحياء حينئذ لما وسعه التخلف عن لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والهجرة إليه .

قال: وما أعجب إغراء أهل الضعف بذكر الخضر وإلياس! والمعني منهم بذلك المنتسبون إلى رؤية الأبدال ومشاهدة الآيات .

قال: وقد أخبرني بعض أصحابنا أن إبراهيم الحربي ابن إسحاق سئل عن تعمير الخضر فأنكر ذلك ، وقال: هو متقادم الموت .

قال: وروجع غيره في تعميره ، وأن طائفة من أهل زماننا يرونه ويروون عنه ، فقال: من أحال على غائب حي أو مفقود ميت لم ينتصف منه ، وما ألقى ذكر هذا بين الناس إلا الشيطان .

قال: فإن قيل: هذا هامة بن الهيم وزريب بن برثملا معمران ، قيل: ومن صحح لهما وجادة حتى يكون لهما تعمير؟! ولو أنهما معروفان لكان سبيلهما في التخليد سبيل سائر البشر ، بل هذان حديثان دسا إلى مغفلين فرووهما بلا تفقد ولا تمييز .

فإن قيل: هذا هاروت وماروت وإبليس باقون إلى يوم القيامة .

قيل: ليس هؤلاء بشرا ، ولو كانوا بشرا لما نص القرآن على تخليدهم ، ولما أنكر ذلك مؤمن . وتخليد إبليس ثابت بقوله: فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم [15: 37 - 38] .

[ ص: 365 ]

وتخليد الملكين بقوله: وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة [2: 102] وهذا لا يكون إلا على مستقبل الأيام .

قال: وجاء في التفسير أنهما مصلوبان منكسان في بئر ببابل؛ لأنهما اختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة فأعطيا ما سألا .

فأما بقاء الدجال الأعور فليس ذلك بالطويل؛ لأنه ولد بالمدينة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يحيا إلى نزول المسيح عيسى فيقتله .

قال: فقد صح لما بينا أن الخضر عبد من عباد الله نصب لموسى لأمر أراده الله ، وقد مضى لسبيله ، فليعرف ذلك ، وإن سمع من جاهل خلاف ذلك فلا يمارين؛ لأن المراء في ذلك نقص ، زادنا الله وإياكم فهما .

هذا آخر كلام أبي الحسين المنادي ، ومن خطه نقلته .

وقد روى أبو بكر النقاش: أن محمد بن إسماعيل البخاري سئل عن الخضر وإلياس هل هما في الأحياء؟ فقال: كيف يكون ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد" .

التالي السابق


الخدمات العلمية