الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن الحوادث في زمن أنوشروان :

[ ص: 119 ] أن ملك اليمن لم يزل متصلا لا يطمح فيه طامح حتى ظهرت الحبشة على بلادهم في زمن أنوشروان .

قال هشام بن محمد : وكان سبب ظهورهم أن ذا نواس الحميري ملك اليمن في ذلك الزمان كان يهوديا ، فتقدم عليه يهودي [ من أهل نجران ] يقال له: دوس من أهل نجران فأخبره أن أهل نجران قتلوا له بنتين ظلما ، فاستنصره عليهم - وأهل نجران نصارى - فحمى ذو نواس اليهودية ، فغزا أهل نجران فأكثر فيهم القتل ، فخرج رجل من أهل نجران حتى قدم على ملك الحبشة فأعلمه بما نكبوا به ، وأتاه بالإنجيل قد أحرق النار بعضه ، فقال له: الرجال عندي كثير وليس عندي سفن ، وأنا كاتب إلى قيصر في البعثة إلي بسفن أحمل فيه الرجال: فكتب إلى قيصر في ذلك ، وبعث إليه بالإنجيل المحرق .

فبعث له قيصر بسفن كثيرة ، فبعث معه صاحب الحبشة سبعين ألفا من الحبشة وأمر عليهم رجلا من الحبشة يقال له: أرياط ، وعهد إليه: إن أنت ظهرت عليهم فاقتل ثلث رجالهم ، وأخرب ثلث بلادهم ، واسب ثلث نسائهم وأبنائهم ، فخرج أرياط ومعه جنوده وفي جنوده أبرهة الأشرم ، فركب البحر ، وسمع بهم ذو نواس ، فجمع إليه حمير ومن أطاعه ومن قبائل اليمن فتناوشوا ، ثم انهزم ذو [ ص: 120 ] نواس ، ودخل أرياط بجموعه ، فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه فرسه في البحر ، ثم ضربه فخاض فيه في ضحضاح حتى أفضى به إلى غمره فأقحمه ، فكان آخر العهد به .

ووطئ أرياط اليمن بالحبشة فقتل ثلث رجالها ، وأخرب ثلث بلادها ، وبعث إلى النجاشي بثلث سباياها ، فأقام أبرهة ملكا على صنعاء ومخاليفها ، ولم يبعث إلى النجاشي بشيء ، فقيل للنجاشي : إنه قد خلع طاعتك ، وإنه رأى أن قد استغنى بنفسه . فوجه إليه جيشا عليه أرياط ، فلما حل بساحته بعث إليه أبرهة : إنه يجمعني وإياك الدين والبلد ، والواجب علي وعليك [ أن ] تنظر لأهل بلادنا وديننا ، فإن شئت فبارزني ، فأينا ظفر بصاحبه كان الملك له ، ولم يقتل الحبشة فيما بيننا ، فرضي أرياط ، فأجمع أبرهة على المكر به ، فاتعدا موضعا يلتقيان فيه [ فأكمن أبرهة عبدا له يقال له: أرنجدة في وهدة قريب من الموضع الذي يلتقيان فيه ] ، فلما التقيا سبق أرياط فزرق أبرهة بحربته ، فزالت الحربة عن رأسه وشرمت أنفه ، فسمي: أبرهة الأشرم ، ونهض الكمين من الحفرة فزرق أرياط فأنفذه وقتله .

فقال لأرنجدة: احتكم . [ ص: 121 ] فقال: لا تدخل امرأة باليمن على زوجها حتى يبدأ بي . قال: لك ذلك . فغبر بذلك زمانا ، ثم إن أهل اليمن عدوا عليه فقتلوه . فقال أبرهة : قد آن لكم أن تكونوا أحرارا .

فبلغ النجاشي قتل أرياط ، فآلى ألا ينتهي حتى يريق دم أبرهة ويطأ بلاده ، وبلغ أبرهة آليته ، فكتب إليه: أيها الملك ، إنما كان أرياط عبدك ، وأنا عبدك ، قد هم علي يريد توهين ملكك ، وقتل جندك ، فسألته أن يكف عن قتالي ، إلى أن أوجه إليك رسولا ، فإن أمرته بالكف عني وإلا سلمت إليه جميع ما أنا فيه ، فأبى إلا أن يحاربني ، فحاربته ، فظهرت عليه ، وإنما سلطاني لك ، وقد بلغني أنك حلفت ألا تنتهي حتى تريق دمي ، وتطأ بلادي ، وقد بعثت إليك بقارورة من دمي وجراب من تراب بلادي ، وفي ذلك خروجك من يمينك ، فاستتم أيها الملك عندي يدك ، فإنما أنا عبدك ، وعزي عزك ، فرضي عنه النجاشي ، وأقره على عمله

التالي السابق


الخدمات العلمية