الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 11 ] [وفاة خديجة رضي الله عنها]

ومن الحوادث: وفاة خديجة [رضي الله عنها] بعد أبي طالب بأيام .

أخبرنا ابن عبد الباقي قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أمامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: حدثنا محمد بن عمر بن واقد ، عن محمد بن صالح بن دينار ، وعبد الرحمن بن عبد العزيز ، والمنذر بن عبد الله [عن بعض أصحابه ، عن حكيم بن حزام ، قال: وحدثنا محمد بن عبد الله ] عن أبيه ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير قال:

لما توفي أبو طالب وخديجة ، وكان بينهما شهر وخمسة أيام ، اجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبتان ، فلزم بيته ، وأقل الخروج ، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع به ، فبلغ ذلك أبا لهب ، فجاءه فقال: يا محمد ، امض لما أردت وما كنت صانعا إذ كان أبو طالب حيا فاصنعه ، لا واللات لا يوصل إليك حتى أموت . وسب ابن العيطلة النبي صلى الله عليه وسلم ، فأقبل عليه أبو لهب ، فنال منه ، فولى [وهو] يصيح: يا معشر قريش ، صبأ أبو عتبة . [ ص: 12 ]

فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبي لهب ، فقال: ما فارقت دين عبد المطلب ، ولكني أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد . فقالوا: قد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم . فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أياما يذهب ويأتي ، لا يعترض له أحد من قريش ، وهابوا أبا لهب ، إلى أن جاء عقبة بن أبي معيط وأبو جهل إلى أبي لهب فقالا له: أخبرك ابن أخيك ، أين مدخل أبيك؟ فقال له أبو لهب: يا محمد ، أين مدخل عبد المطلب؟ قال: "مع قومه" .

قال: فخرج إليهما أبو لهب وقال: قد سألته ، فقال مع قومه .

فقالا: إنه يزعم أنه في النار . فقال: يا محمد ، أيدخل عبد المطلب النار؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم ، ومن مات على مثل ما مات [عليه عبد المطلب دخل] النار" .

فقال أبو لهب: والله لا برحت لك عدوا أبدا ، وأنت تزعم أن عبد المطلب في النار ، فاشتد عليه [هو] وسائر قريش
.

قال محمد بن عمر : وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز ، عن أبي الحويرث ، عن محمد بن جبير بن مطعم قال: لما توفي أبو طالب تناولت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج حينئذ إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة في ليال بقين من شوال سنة عشر .

قال محمد بن عمر - بغير هذا الإسناد -: فأقام بالطائف عشرة أيام .

وقال غيره: شهرا لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه فلم يجيبوه ، وخافوا على أحداثهم فقالوا: يا محمد ، اخرج من بلدنا والحق لمجابك من الأرض ، وأغروا به سفهاءهم . فجعلوا يرمونه بالحجارة حتى إن رجليه لتدميان ، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه [ ص: 13 ] حتى لقد شج في رأسه شجاجا . فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم [من الطائف راجعا] إلى مكة وهو محزون ، فلما نزل نخلة قام يصلي ، فصرف إليه نفر من الجن ، سبعة من أهل نصيبين ، فاستمعوا وأقاموا بنخلة أياما .

فقال له زيد: كيف تدخل عليهم وهم أخرجوك؟

فأرسل رجلا من خزاعة إلى مطعم بن عدي أدخل في جوارك ، قال: نعم .

قال محمد بن كعب القرظي : لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف - وهم قادة ثقيف وأشرافهم يومئذ - وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل ، ومسعود ، وحبيب أولاد عمرو بن عمير ، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله عز وجل ، وكلمهم بما جاء له من نصرته على الإسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه ، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك .

وقال آخر: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك .

وقال الثالث: والله لا أكلمك كلمة أبدا ، لئن كنت رسولا من الله كما تقول ، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ، ولئن كنت [تكذب على الله ما ينبغي] لي أن أكلمك .

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم [وقد يئس] من نصر ثقيف ، وأغروا به سفهاءهم يسبونه ويصيحون به ، حتى اجتمع إليه الناس ، وألجئوه إلى حائط لعتبة بن [ ص: 14 ] ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه ، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد إلى ظل حبلة من عنب ، فجلس فيه ، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف ، فلما اطمأن قال فيما ذكر لي:

اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني ، إلى بعيد فيجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري ، فإن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو تحل علي سخطك ، لك الرضى حتى ترضى ، لا حول ولا قوة إلا بك .

فلما رأى ابنا ربيعة - عتبة وشيبة - ما لقي ، تحركت له رحمهما ، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له: عداس ، وقالا له: خذ قطفا من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق ، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه . ففعل ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال: "بسم الله" ثم أكل .

فنظر عداس إلى وجهه ، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة .

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن أي البلاد أنت ، وما دينك" ؟ .

قال: أنا نصراني ، وأنا رجل من أهل نينوى .

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى" ؟ .

قال له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ .

قال: ذاك أخي ، كان نبيا وأنا نبي . [ ص: 15 ]

فأكب عداس على رأس رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقبل رأسه ويديه ورجليه .

قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك . فلما جاءهما قالا له: ويلك يا عداس ، ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟

قال: يا سيدي ما في الأرض [شيء خير من هذا ، لقد أخبرني] بأمر لا يعلمه إلا نبي
.

التالي السابق


الخدمات العلمية