الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 54 ] ذكر ما جرى في طريقه إلى المدينة

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار ومعه أبو بكر رضي الله عنه ، وعامر بن فهيرة ووليهم عبد الله بن أريقط الليثي ، وكان على دين قومه ، فأخذ بهم طريق السواحل .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، أخبرنا أبو الحسن بن علي ، أخبرنا أحمد بن جعفر ، أخبرنا عبد الله بن أحمد قال : حدثني أبي قال: حدثنا عمرو بن محمد العنقري قال: حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب قال: اشترى أبو بكر من عازب سرجا [بثلاثة عشر درهما . قال:] فقال: مر البراء فليحمله إلى منزلي . قال: لا ، حتى تحدثنا كيف [صنعت حين] هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت معه؟

قال [فقال أبو بكر]: خرجنا فأدلجنا فأحثثنا يومنا وليلتنا حتى أظهرنا ، وقام قائم الظهيرة ، فضربت ببصري ، هل أرى ظلا نأوي إليه؟ فإذا أنا بصخرة فأهويت إليها ، فإذا بقية ظلها ، فسويته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفرشت له فروة ، وقلت: اضطجع يا رسول الله .

فاضطجع ، ثم خرجت أنظر هل أرى أحدا من الطلب ، فإذا براعي غنم فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من قريش . فسماه فعرفته ، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم . [قال] قلت: هل أنت حالب لي؟ قال: نعم . [قال: فأمرته] فاعتقل شاة منها ، ثم أمرته فنفض ضرعها من الغبار ، ثم أمرته فنفض كفيه من الغبار ، ومعي إداوة على فمها خرقة ، فحلب [لي كثبة] من اللبن ، فصببته على القدح حتى برد أسفله ، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم [فوافيته وقد استيقظ] فقلت: اشرب يا رسول الله . فشرب [ ص: 55 ] حتى رضيت ، ثم قلت: هل أتى الرحيل؟ فارتحلنا والقوم يطلبوننا ، فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له . فقلت: يا رسول الله ، هذا الطلب قد بلغنا . فقال: "لا تحزن إن الله معنا" حتى إذا دنا منا فكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين - أو قال: رمحين أو ثلاثة - قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد بلغنا . وبكيت .

قال: "لم تبكي؟" قلت: أما والله ما على نفسي أبكي ، ولكن أبكي عليك . قال: فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم اكفنا بما شئت" فساخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد ، ووثب عنها وقال: يا محمد ، قد علمت أن هذا عملك ، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه ، فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب ، وهذه كنانتي فخذ منها سهما ، فإنك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا ، فخذ منها حاجتك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حاجة لي فيها" ، قال: ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق فرجع إلى أصحابه
.

أخبرنا عبد الأول قال: أخبرنا ابن المظفر قال: أخبرنا ابن أعين قال: حدثنا الفربري قال: أخبرنا البخاري قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير قال: أخبرنا الليث ، عن عقيل ، قال ابن شهاب: أخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي : أنه سمع سراقة يقول:

جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره ، فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي ، أقبل رجل منهم حتى قام علينا [ونحن جلوس] ، فقال: يا سراقة ، إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل ، أراها محمدا وأصحابه . قال سراقة: فعرفت أنهم هم ، فقلت: إنهم ليسوا بهم ، ولكنك رأيت فلانا وفلانا ، انطلقوا بأعيننا . [ ص: 56 ]

ثم لبثت في المجلس ساعة ، ثم قمت ، فدخلت [بيتي] ، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة ، فتحبسها علي ، فأخذت رمحي وخرجت به من ظهر البيت ، فخططت بزجه الأرض ، وخفضت عالية [الرمح] ، حتى أتيت فرسي فركبتها ، فدفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم ، فعثرت بي فرسي فخررت عنها ، فأهويت يدي إلى كنانتي ، فاستخرجت [منها] الأزلام ، فاستقسمت بها أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره [لا أضرهم] ، فركبت فرسي وعصيت الأزلام ، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو [لا] يلتفت ، وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي حتى بلغتا الركبتين ، فخررت عنها ، ثم زجرتها ، فنهضت ولم تكد تخرج يديها ، فلما استوت قائمة ، إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان ، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره ، فناديتهم بالأمان فوقفوا ، فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت [ما لقيت] من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية ، وأخبرتهم [أخبار] ما يريد الناس بهم ، وعرضت عليهم الزاد والمتاع . فلم يرزآني ولم يسألاني ، إلا أن قالا: أخف عنا . فسألته أن يكتب لي كتاب أمن ، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم ، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم .


التالي السابق


الخدمات العلمية