الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
261 - صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، أبو سفيان:

لم يزل على الشرك يقود الجموع لقتال النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن أسلم يوم فتح مكة ، وكان الإيمان في قلبه متزلزلا ، فعد في المؤلفة [قلوبهم] ، ثم استقر إيمانه وقوي يقينه ، وكان قد كف عن القتال بعد الخندق ، وبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية من تمر عجوة ، وكتب إليه يستهديه أدما ، فقبل هديته وأهدى إليه .

أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار ، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي [الجوهري] ، قال: أخبرنا ابن حيوية ، قال: أخبرنا أحمد بن معروف ، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم ، قال: حدثنا محمد بن سعد ، قال: أخبرنا محمد بن عمر ، قال: حدثني عبد الله بن جعفر ، قال: سمعت يعقوب بن عتبة يخبر عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران قال العباس بن عبد المطلب: واصباح قريش إن دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوة . قال العباس: فأخذت بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء وقلت: [ ص: 28 ] ألتمس حطابا أو إنسانا أبعثه إلى قريش .

فو الله إني لفي الأراك إذا أنا بأبي سفيان بن حرب ، فقلت: يا أبا حنظلة ، قال: لبيك أبا الفضل ، وعرف صوتي ، فقال: ما لك فداك أبي وأمي ، قلت: ويلك هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف ، فقال: بأبي وأمي ما تأمرني ، هل من حيلة؟ قلت: نعم ، تركب عجز هذه البغلة فأذهب بك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه إن ظفر بك دونه قتلت ، قال: وأنا والله أرى ذلك . ثم ركب خلفي وتوجهت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرآه عمر بن الخطاب فعرفه وأراد قتله وقال: يا رسول الله ، هذا أبو سفيان آخذ بلا عهد ولا عقد ، قال: فقلت: إني قد أجرته ، وجرى بين العباس وعمر في ذلك الكلام .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله" قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك ، قد كان يقع في نفسي أنه لو كان مع الله إله لقد أغنى عني شيئا ، قال: "يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ " قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك ، أما هذا فو الله إن في نفسي منها أشياء بعد ، فقال العباس: ويحك اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تقتل . قال: فشهد شهادة الحق وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . فقال العباس: يا نبي الله إنك قد عرفت أبا سفيان وحبه للشرف والفخر فاجعل له شيئا ، قال: "نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق داره فهو آمن"
.

قال محمد بن سعد: وأخبرنا عمرو بن عاصم الكلابي ، قال: حدثنا جعفر بن سليمان ، قال: حدثنا ثابت البناني ، قال: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوذي وهو بمكة فدخل دار أبي سفيان أمن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" .

قال ابن سعد: وأخبرنا محمد بن عبيد ، قال: أخبرنا إسماعيل بن [أبي] خالد ، عن أبي إسحاق السبيعي: إن أبا سفيان بن حرب بعد فتح مكة كان جالسا ، فقال في نفسه: لو جمعت [ ص: 29 ] لمحمد جمعا . قال: إنه ليحدث نفسه بذلك إذ ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بين كتفيه وقال: "إذن أخزاك الله" قال: فرفع رأسه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم على رأسه ، فقال: ما أيقنت أنك نبي حتى الساعة إن كنت لأحدث نفسي بذلك .

قال ابن سعد: قال محمد بن عمر: وشهد أبو سفيان الطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورمي يومئذ فذهبت إحدى عينيه . وشهد يوم حنين وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين مائة من الإبل وأربعين أوقية ، وأعطى ابنيه يزيد ومعاوية ، فقال له أبو سفيان: والله إنك لكريم ، فداك أبي وأمي لقد حاربتك فنعم المحارب كنت ، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت ، فجزاك الله خيرا . قال أنس بن مالك: ثم عمي أبو سفيان بعد ذلك .

قال ابن سعد: قال محمد بن عمر: حدثني عبد الحميد بن جعفر ، عن أبيه ، عن ابن المسيب ، عن مبشر بن الحويرث ، قال: حضرت يوم اليرموك المعركة فلا أسمع للناس كلمة ولا صوتا إلا نقف الحديد بعضه بعضا ، إلا أني قد سمعت صائحا يقول: يا معشر المسلمين ، يوم من أيام الله أبلوا لله فيه بلاء حسنا ، وإذا هو أبو سفيان بن حرب تحت راية ابنه يزيد .

قال محمد بن عمر: نزل أبو سفيان المدينة في آخر عمره ، ومات بها سنة اثنتين وثلاثين في آخر خلافة عثمان ، وهو يوم مات ابن ثمان وثمانين سنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية