الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
وقد ذكرنا عدم اعتبار العلم في الآمر والناهي ، فلذا قال الناظم رحمه الله تعالى ( و ) لو كان الآمر والناهي ذا ( جهل ) ضد العلم وهو انتفاء العلم بالمقصود ويسمى الجهل البسيط ، وأما الجهل المركب فهو تصور الشيء على غير هيئته لأنه جهل المدرك بما في الواقع مع الجهل بأنه جاهل به كاعتقاد الفلاسفة قدم العالم .


ولو كان ذا جهل بسيط عذرته ولكنه يدلي بجهل مركب

( و ) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( في سوى ) أي في غير الآمر ( الذي قيل ) عنه إنه ( فرض ) أي فرض عين وهو ما إذا كان عالما بالحظر والفعل آمنا ولم يقم غيره به كما قدمناه ( ب ) فرض ( الكفاية ) وهو ما إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، فالمقصود حصوله قصدا ذاتيا ، وقصد الفاعل فيه تبع لا ذاتي ، ففرض الكفاية واجب على الجميع كغسل الميت فإنه حق على الناس كالصلاة عليه ودفنه لا يسع عامتهم تركه ، وإذا قام به من فيه كفايته أجزأ عنهم ، وإذا فعله الجميع منهم كان فرضا في حق الجميع لعدم [ ص: 220 ] ما يقتضي تمييز بعضهم . وفرض العين أفضل من فرض الكفاية لأنه أهم ، ولذا وجب على الأعيان . وهذا المعتمد ، وقيل عكسه لكونه يسقط به الطلب عن نفسه وعن غيره ، والصحيح الأول . والجار والمجرور في قول الناظم بالكفاية متعلق بقوله ( فاحدد ) وهو فعل أمر مبني على السكون وحرك بالكسر للقافية .

والحد في اللغة المنع . وفي الاصطلاح الوصف المحيط بموصوفه المميز له عن غيره ، ولا بد من كونه مطردا وهو المانع كلما وجد الحد وجد المحدود منعكسا وهو الجامع كلما وجد المحدود وجد الحد ، وقد علم بما ذكرنا حد فرض الكفاية . فتحقق من كلام الناظم رحمه الله تعالى أن الأمر والنهي يدوران بين فرض الكفاية وفرض العين . فإن علم بالمحظور وعلم بفعله ولم يقم سواه بإزالته وأمن على نفسه فهو في حقه فرض عين . وإن علم أو أمن مع وجود من يقوم به سواه ففرض كفاية . وظاهر نظامه رحمه الله أنه لا يخرج عن ذلك وهو كذلك من حيث هو هو . نعم إذا كان في حالة لا يجب الأمر والنهي بأن خاف على نفسه أو ماله أو حرمته على ما قدمنا يكون فضيلة لا واجبا ، وقد قدمنا كلامهم في ذلك والله أعلم .

( تتمة ) في أحاديث وردت عن خير البشر ، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، غير ما ذكرناه فيما مر ، وما سيأتي على الأثر .

أخرج الترمذي وقال حسن غريب عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم } .

وأخرج ابن ماجه بسند رواته ثقات عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يحقرن أحدكم نفسه . قالوا يا رسول الله وكيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال يرى أمر الله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه ، فيقول الله عز وجل يوم القيامة ما منعك أن تقول في كذا وكذا ؟ فيقول خشيت الناس ، فيقول فإياي كنت أحق أن تخشى } .

وأخرج أبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه [ ص: 221 ] من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم } إلى قوله { فاسقون } ثم قال كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا } . ورواه الترمذي وحسنه ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا ، فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم ، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئا فقال لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا } ورواه ابن ماجه عن أبي عبيدة مرسلا . قال الحافظ المنذري : ومعنى تأطروهم أي تعطفوهم وتقهروهم وتلزموهم باتباع الحق . انتهى وفي القاموس : الأطر عطف الشيء . وفي مطالع الأنوار لابن قرقول : والأطر العطف ، ويقال منه أطرت الشيء آطره أطرا إذا عطفته . وفي الحديث { فيأطره على الحق أطرا } انتهى .

وأخرج أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح عن سيدنا أبي بكر الصديق رضوان الله عليه قال { يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله بعقاب } . ورواه ابن ماجه والنسائي وابن حبان في صحيحه ولفظ النسائي إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { إن القوم إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بعقاب } . وفي رواية لأبي داود سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول [ ص: 222 ] { ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب } .

وأخرج الإمام أحمد والترمذي واللفظ له وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ليس منا من لم يرحم صغيرنا ، ويوقر كبيرنا ، ويأمر بالمعروف ، وينه عن المنكر } .

وقال أبو هريرة رضي الله عنه { كنا نسمع أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة وهو لا يعرفه فيقول له مالك إلي وما بيني وبينك معرفة ، فيقول كنت تراني على الخطأ أو على المنكر ولا تنهاني } ذكره الحافظ المنذري . قال ذكره رزين ولم أره ، والله تعالى الموفق . .

التالي السابق


الخدمات العلمية