الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الثامنة والثلاثون : في بقاء معنى هذه الآية أو ارتفاعه . قال ابن عباس حكمها منسوخ . وقال الحسن : حكمها ثابت ، فمن قال : إنها منسوخة قال : إن اليمين الآن لا تجب على الشاهد ; لأنه إن ارتيب به لم تجز شهادته ، وإن لم تكن هناك ريبة ولا في حاله خلة لم يحتج إلى اليمين ، وعلى هذا عول جمهور العلماء ونخبتهم . وقد قرر الله تعالى ذلك وحققه بأمره في قوله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } . و { ممن ترضون من الشهداء } .

                                                                                                                                                                                                              فوقعت الشهادة على العدالة ، واقتضيت اليمين منها إن كانت فيها .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إنها ثابتة فاختلفوا فيه ; فمنهم من قال : إن شهادة أهل الذمة جائزة في السفر ; منهم أحمد كما تقدم يجوزها في السفر عند عدم المسلمين بغير يمين ، وصار بعض أشياخنا إلى أن ذلك باق باليمين ، وهو خرق للإجماع ، وجهل بالتأويل ، وقصور عن النظر ، وإذا أسقط أحمد اليمين فلا حجة له في الآية ولا في الحديث ; لأن اليمين تثبت فيهما جميعا .

                                                                                                                                                                                                              والصحيح أن الشهادة اليمين ، وهي هاهنا يمين الوصيين ، كما سميت اليمين في اللعان شهادة .

                                                                                                                                                                                                              وقال الطبري : إنما حكم الله سبحانه باليمين على الشاهدين في هذا الموضع من أجل دعوى ورثة الميت على المسند إليهما الوصية بالخيانة ، أو غير ذلك ، ما لا يبرأ فيه [ ص: 252 ] المدعي ذلك قبله إلا بيمين ; فإن نقل اليمين إلى ورثة الميت إنما أوجبه الله تعالى بعد أن عثر على الشاهدين في أيمانهما بإثم ، وظهر على كذبهما في ذلك بما ادعوا من مال الميت أنه باعه منهما ، وهذا بناء على أن الخيانة ظهرت في أداء المال ، ولذلك حلفا مع الشهادة .

                                                                                                                                                                                                              قال القاضي ابن العربي : وهذا يصح على إحدى الروايات التي ذكر فيها أنهما ادعيا بيع الجام منهما .

                                                                                                                                                                                                              وأما على الرواية الأخرى فلا يستقيم هذا التأويل لأن الشاهدين أديا التركة فيما ذكر فيها ، وانقلبا على ستر وسلامة ، ثم بعد ذلك ظهرت الخيانة في الجام ; إما بأنه وجد يباع ، وإما بتحرج تميم الداري وتأثمه وأدائه ما كان أخذه منه .

                                                                                                                                                                                                              وتحقيق الكلام فيه أن كل رواية من تلك الروايات عضدتها صيغة القصة في كتاب الله وسردوها فإنها صحيحة ، وكل ما لم يعضده منها فهو مردود .

                                                                                                                                                                                                              أما إنه إذا فسرت الكلام في كتاب الله فاحتجت إلى تجويز أو تقديم أو تأخير فكلما كان أقل في ذلك من التأويلات فهو أرجح ، وكلما كان من خلاف الأصول فيه أقل فهو أرجح ، كتأويل فيه إجازة شهادة الكافر وإحلاف الشاهد على شهادته ; فإن التأويل الذي يخرج عنه هذا هو أرجح ، ولا يسلم تأويل من اعتراض ; فإن البيان من الله تعالى في هذه الآية للأحكام جاء على صفة غريبة وهو سياقه على الإشارة إلى القصة ; ولذلك جاء بانتقالات كثيرة ، منها أنه قال : { فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما } .

                                                                                                                                                                                                              وربما كان المدعي واحدا ، فليس قوله تعالى : { فآخران } خارجا مخرج الشرط ، وإنما هو كناية عما جرى من العدد في القصة ، والواحد كالاثنين فيها ; فيطلب الناظر مخرجا أو تأويلا للفظ لا يحتاج إليه ، فيدخل الإشكال على نفسه من حيث لا يشعر به ، فلا يساحل عن هذا البحر أبدا ; وكذلك ما جرى من التعديد لا يمنع من كون [ ص: 253 ] الشهادة بمعنى اليمين كما في اللعان . وإن كان لم يذكر في اللعان عددا ، وجرى ذكره هاهنا لاتفاقه في القصة ; لا لأنه شرط في الحكم .

                                                                                                                                                                                                              وكذلك ذكر العدالة تنبيها على ما يجب ; لأنه إن أشهده وجب أن يكون عدلا لتحمل الشهادة ، فإن ائتمنه وجب أن يكون عدلا لأداء الأمانة .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية