الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              [ ص: 122 ] المسألة التاسعة قوله تعالى : { ولتكبروا الله على ما هداكم } قال علماؤنا : معناه تكبروا إذا رأيتم الهلال ، ولا يزال التكبير مشروعا حتى تصلى صلاة العيد ، وقد { كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر إذا رأى الهلال ، ويكبر في العيد } ، فأما تكبيره إذا رأى الهلال فلم يثبت ، أما إنه روى أبو داود وغيره عن قتادة بلاغا عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثين متعارضين : أحدهما : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال أعرض عنه } . الثاني : { أنه كان إذا رآه قال : هلال خير ورشد ، آمنت بالذي خلقك ثلاث مرات ثم يقول : الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا } . قال القاضي : ولقد لكته فما وجدت له طعما .

                                                                                                                                                                                                              وقد أخبرنا المبارك بن عبد الجبار ، أخبرنا ابن زوج الحرة [ أنبأنا النجي ] ، أنبأنا ابن محبوب ، أنبأنا ابن سورة ، أنبأنا محمد بن بشار ، أنبأنا أبو عامر العقدي ، أنبأنا سليمان بن سفيان المدني ، أنبأنا بلال بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه عن جده طلحة بن عبيد الله { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال : اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام } . [ ص: 123 ] قال ابن سورة : حسن غريب . قال القاضي : وهو أثبت من المتقدم .

                                                                                                                                                                                                              وأما تكبيره عليه السلام في العيد فهي مسألة مشكلة ما وجدت فيها شفاء عند أحد ، ومقدار الذي تحصل بعد البحث أن للتكبير ثلاث أحوال : حال في وقت البروز إلى صلاة العيد ، وحال الصلاة ، وحال بعد الصلاة .

                                                                                                                                                                                                              فأما تكبير البروز ، فأخبرنا أبو الحسن المبارك بن عبد الجبار الأزدي ، أنبأنا أبو الطيب الطبري أنبأنا أبو الحسن علي بن عمر ، أخبرنا أبو عبد الله الأملي ، حدثنا علي بن محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبيد الله بن محمد بن حبيش ، حدثنا موسى بن محمد عن عطاء ، حدثنا الوليد بن محمد ، حدثنا الزهري ، أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر أخبره : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى } .

                                                                                                                                                                                                              وذكر عن ابن عمر مثله ، وعن علي رضي الله عنه { أنه كان يكبر حتى يأتي الجبانة } ، يريد حين يبرز .

                                                                                                                                                                                                              وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنهم كانوا في التكبير في الفطر أشد منهم في الأضحى .

                                                                                                                                                                                                              وأما تكبيره في صلاة العيد فقد اختلف في ذلك العلماء سلفا وخلفا ، وروينا في ذلك الأحاديث والأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخبارا عن السلف .

                                                                                                                                                                                                              فأما الأحاديث ، فروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر ، وأبو الأسود محمد بن عبد الرحمن ، ومحمد بن مسلم بن شهاب عن عروة عن عائشة ، وعمار بن ياسر ، وكثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده ، وعبد الله بن عامر الأسلمي ، وغيره عن نافع عن ابن عمر ، واللفظ واحد : [ ص: 124 ] { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر سبعا في الأولى وخمسا في الثانية } .

                                                                                                                                                                                                              وأما أخبار السلف فروي عن علي رضي الله عنه : يكبر إحدى عشرة تكبيرة ، ستا في الأولى ، وخمسا في الآخرة ، ويكبر في الأضحى خمس تكبيرات ، ثلاثا في الأولى وثنتين في الثانية " .

                                                                                                                                                                                                              وروى أيوب عن نافع ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يكبر اثنتي عشرة تكبيرة ، سبعا في الأولى ، وخمسا في الثانية ، سوى تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع " .

                                                                                                                                                                                                              وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : " ثنتي عشرة تكبيرة مثله " وروي عن ابن عباس رضي الله عنه : ثلاث عشرة تكبيرة ; سبعا في الأولى وستا في الثانية " .

                                                                                                                                                                                                              وروي عنه : " إن شئت سبعا ، أو إحدى عشرة ، أو ثلاث عشرة " وروي عن ابن مسعود : " يكبر تسعا : خمسا في الأولى ، وأربعا في الثانية " ومثله عن حذيفة وأبي موسى ; وروي عنهما : " يكبر في العيدين أربعا كتكبير الجنائز " .

                                                                                                                                                                                                              وقد أرسل سعيد بن العاص أمير المدينة إلى أربعة من أصحاب الشجرة ، سألهم عن التكبير في العيدين ، فقالوا : ثماني تكبيرات ، فذكره لابن سيرين ، فقال : صدق ، ولكنه أغفل تكبيرة فاتحة الصلاة .

                                                                                                                                                                                                              واختلف رأي الفقهاء ; فقال مالك والشافعي والليث وأحمد بن حنبل وأبو ثور : سبعا في الأولى ، وخمسا في الثانية .

                                                                                                                                                                                                              إلا أن مالكا قال : سبعا في الأولى بتكبيرة الإحرام ، وقال الشافعي : سوى تكبيرة الإحرام .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 125 ] قال أحمد وأبو ثور : سوى تكبيرة القيام ، وقال الثوري وأبو حنيفة : يكبر خمسا في الأولى ، وأربعا في الثانية ، ست فيها زوائد ، وثلاث أصليات بتكبيرة الافتتاح وتكبيرتي الركوع ، لكن يوالي بين القراءتين ، ويقدم التكبير في الأولى قبل القراءة ، ويقدم القراءة في الثانية قبل التكبير .

                                                                                                                                                                                                              وروى أصحاب أبي حنيفة أن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة فاتفقوا على مذهبهم .

                                                                                                                                                                                                              وظن قوم أن هذا كأعداد الوضوء وركعات صلاة الليل ، وهو وهم من قائله ليس في الوضوء أعداد ، وقد بيناها ، ولا في قيام الليل ركعات مقدرة ; وإنما هو اختلاف روايات في صلاة جماعات ، فهي كاختلاف الروايات في صلاة الخوف ; وإنما يترجح فيها عند النظر إليها : أحدها : أن يقال : إن المرء مخير في كل رواية ، فمن فعل منها شيئا تم له المراد منها ; لأن الفرض نفس التكبير لا قدره .

                                                                                                                                                                                                              وإما أن يقال : إن رواية أهل المدينة أرجح ; لأجل أنهم بالدين أقعد فإنهم شاهدوها ، فصار نقلهم كالتواتر لها .

                                                                                                                                                                                                              ويترجح قول مالك على قول الشافعي ; لأن مالكا رأى تكبيرا يتألف من مجموعه وتر ، والله وتر يحب الوتر [ وإليه أميل ] .

                                                                                                                                                                                                              وقد يمكن تلخيص بعض هذه الروايات بأن يقال : إنه يحتمل أن يكون الراوي عد الأصول والزوائد مرة وأخبر عنها ، فيأتي من مجموعها ثلاث عشرة ، أو يقتصر على الزوائد في الذكر ويحذف الأصليات الثلاث فيظهر هاهنا التباين أكثر ، ولكن يفضل الكل ما قدمنا من الرجوع إلى أعمال أهل المدينة ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                              وأما تكبيره من بعد الصلاة ، فروى أبو الطفيل عن علي ، وعمار : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في دبر الصلوات المكتوبة من صلاة الفجر غداة عرفة إلى صلاة العصر آخر [ ص: 126 ] أيام التشريق يوم دفعة الناس العظمى } .

                                                                                                                                                                                                              ومن حديث أبي جعفر ، عن جابر : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الصبح من غداة عرفة ، وأقبل على أصحابه يقول : على مكانكم ، ويقول : الله أكبر لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد } .

                                                                                                                                                                                                              وروي عن نافع ، عن ابن عمر : " أنهم كانوا يكبرون في صلاة الظهر ، ولا يكبرون في صلاة الصبح " كذلك فعل عثمان رضي الله عنه وهو محصور .

                                                                                                                                                                                                              وروى ربيعة بن عثمان عن سعيد بن أبي هند ، عن جابر بن عبد الله : سمعته يكبر في الصلوات أيام التشريق : الله أكبر ثلاثا .

                                                                                                                                                                                                              واختار الشافعي رواية أبي جعفر [ عن جابر ] ، أن يجمع بين التهليل والتكبير والتحميد ، وذكرها ابن الجلاب من أصحابنا .

                                                                                                                                                                                                              واختار علماؤنا التكبير المطلق ، وهو ظاهر القرآن ، وإليه أميل . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                              وكانت الحكمة في ذلك على ما ذكره علماؤنا رحمة الله عليهم الإقبال على التكبير والتهليل ، وذكر الله تعالى عند انقضاء المناسك شكرا على ما أولى من الهداية وأنقذ به من الغواية ، وبدلا عما كانت الجاهلية تفعله من التفاخر بالآباء ، والتظاهر بالأحساب ، وتعديد المناقب ، على ما يأتي تبيانه في موضعه إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية