الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة السادسة : قوله : { فأعقبهم نفاقا في قلوبهم } : النفاق في القلب هو الكفر ، وإذا كان في الأعمال فهو معصية ، وقد حققنا ذلك في شرح الصحيح والأصول ، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم : { أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر } . روته الصحاح والأئمة

                                                                                                                                                                                                              ، وتباين الناس فيه حزقا ، وتفرقوا فرقا ، بسبب أن المعاصي بالجوارح لا تكون كفرا عند أهل الحق ، ولا في دليل التحقيق .

                                                                                                                                                                                                              وظاهر هذا الحديث يقتضي أنه إذا اجتمعت فيه هذه الخصال صح نفاقه وخلص ، وإذا كان منهن واحدة كانت فيه من النفاق خصلة ، وخصلة من النفاق نفاق ، وعقدة من الكفر كفر ، وعليه يشهد ظاهر هذه الآية بما قال فيه من نكثه لعهده ، وغدره الموجب له حكم النفاق ; فقالت طائفة : إن ذلك إنما هو لمن يحدث بحديث يعلم كذبه ، ويعهد بعهد لا يعتقد الوفاء به ، وينتظر الأمانة للخيانة فيها .

                                                                                                                                                                                                              وتعلقوا فيما ذهبوا إليه من ذلك بحديث خرجه البزار عن سلمان قال : { دخل أبو بكر وعمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من خلال المنافقين ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان . فخرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقيلين ، فلقيهما علي فقال لهما : مالي أراكما ثقيلين ؟ قالا : حديثا سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم : من [ ص: 551 ] خلال المنافقين إذا حدث كذب ، وإذا ائتمن خان ، وإذا وعد أخلف . فقال علي : أفلا سألتماه ؟ فقالا : هبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : لكني سأسأله . فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لقيني أبو بكر وعمر ، وهما ثقيلان ، ثم ذكر ما قالا : فقال : قد حدثتهما ، ولم أضعه على الموضع الذي يضعونه ، ولكن المنافق إذا حدث وهو يحدث نفسه أنه يكذب ، وإذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف ، وإذا ائتمن وهو يحدث نفسه أنه يخون } .

                                                                                                                                                                                                              قال القاضي الإمام : هذا ليس بممتنع لوجهين : أحدهما ضعف سنده .

                                                                                                                                                                                                              والثاني أن الدليل الواضح قد قام على أن متعمد هذه الخصال لا يكون كافرا ، وإنما يكون كافرا باعتقاد يعود إلى الجهل بالله وصفاته أو التكذيب له .

                                                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : إنما ذلك مخصوص بالمنافقين زمان رسول الله .

                                                                                                                                                                                                              أفادني أبو بكر الفهري بالمسجد الأقصى : { أن مقاتل بن حيان قال خرجت زمان الحجاج بن يوسف ، فلما كنت بالري أخبرت أن سعيد بن جبير بها مختف من الحجاج ، فدخلت عليه ، فإذا هو في ناس من أهل وده . قال : فجلست حتى تفرقوا . ثم قلت : إن لي والله مسألة قد أفسدت علي عيشي . ففزع سعيد ، ثم قال : هات . فقلت : بلغنا أن الحسن ومكحولا وهما من قد علمت في فضلهما وفقههما فيما يرويان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن صلى وصام ، وزعم أنه مؤمن : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان . ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه ثلث النفاق . وظننت أني لا أسلم منهن أو من بعضهن ، ولم يسلم منهن كثير من الناس . قال : فضحك سعيد ، وقال : همني والله من الحديث مثل الذي أهمك . فأتيت ابن عمر وابن عباس فقصصت عليهما ما قصصت علي ، فضحكا [ ص: 552 ] وقالا : همنا والله من الحديث مثل الذي أهمك . فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه ، فقلنا : يا رسول الله ، إنك قد قلت : ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن صام وصلى وزعم أنه مؤمن : من إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ، ومن كانت فيه خصلة منهن ففيه ثلث النفاق ، فظننا أنا لم نسلم منهن أو من بعضهن ولن يسلم منهن كثير من الناس . قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما لكم ولهن ؟ إنما خصصت به المنافقين ، كما خصهم الله في كتابه . أما قولي : إذا حدث كذب فذلك قول الله عز وجل : { إذا جاءك المنافقون } لا يرون نبوتك في قلوبهم ، أفأنتم كذلك ؟ قال : فقلنا : لا . قال : فلا عليكم ، أنتم من ذلك برآء . وأما قولي : إذا وعد أخلف ، فذلك فيما أنزل الله علي : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله } إلى : يكذبون . أفأنتم كذلك ؟ قال : فقلنا : لا ، والله لو عاهدنا الله على شيء لوفينا بعهده . قال : فلا عليكم ، أنتم من ذلك برآء . وأما قولي : إذا ائتمن خان ، فذلك فيما أنزل الله : { إنا عرضنا الأمانة } إلى : { جهولا } . فكل مؤمن مؤتمن على دينه ، والمؤمن يغتسل من الجنابة في السر والعلانية ، ويصوم ويصلي في السر والعلانية ، والمنافق لا يفعل ذلك إلا في العلانية ، أفأنتم كذلك ؟ قلنا : لا . قال : فلا عليكم ، أنتم من ذلك برآء . قال : ثم خرجت من عنده فقضيت مناسكي ، ثم مررت بالحسن بن أبي الحسن البصري ، فقلت له : حديث بلغني عنك . قال : وما هو ؟ قلت : من كن فيه فهو منافق . قال : فحدثني بالحديث . قال : فقلت : أعندك فيه شيء غير هذا ؟ قال : لا . قلت : ألا أحدثك حديثا حدثني به سعيد بن جبير ، فحدثته به ، فتعجب منه ، وقال : إن لقينا سعيدا سألناه عنه ، وإلا قبلناك . } [ ص: 553 ] قال القاضي : هذا حديث مجهول الإسناد ، وأما معناه ففيه نحو من الأول ، وهو تخصيصه من عمومه ، وتحقيقه بصفته ، أما قوله : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله } الآية ، فإنه كذب في الاعتقاد ، وهو كفر محض .

                                                                                                                                                                                                              وأما قوله : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله } فهي الآية التي نتكلم فيها الآن ، وهي محتملة يمكن أن يصحبها الاعتقاد ، بخلاف ما عاهد عليه عند العهد .

                                                                                                                                                                                                              ويحتمل أن يكون بنية الوفاء حين العهد ، وطرأ عليه ذلك بعد تحصيل المال .

                                                                                                                                                                                                              وأما قوله : { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال } .

                                                                                                                                                                                                              وقوله فيه : إن المؤمن يصلي في السر والعلانية ، ويغتسل ويصوم كذلك ، فقد يترك الصلاة والغسل تكاسلا إذا أسر ، ويفعلها رياء إذا جهر ولا يكذب بهما ، وكذلك في الصوم مثله ، ولا يكون منافقا بذلك ، لما بيناه من أن المنافق من أسر الكفر ، والعاصي من آثر الراحة ، وتثاقل في العبادة .

                                                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : هذا فيمن كان الغالب عليه هذه الخصال .

                                                                                                                                                                                                              والذي عندي أنه لو غلبت عليه المعاصي ما كان بها كافرا ما لم تؤثر في الاعتقاد .

                                                                                                                                                                                                              والذي عندي أن البخاري روى عن حذيفة أن النفاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان ; وذلك أن أحدا لا يعلم منه هذا ، كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه منه النبي ، وإنما هو القتل دون تأخير ، فإن ظهر ذلك من أحد في زماننا فيكون كقوله : { من ترك الصلاة فقد كفر ، وأيما عبد أبق من مواليه فقد كفر } .

                                                                                                                                                                                                              وقد قال علماؤنا رحمة الله عليهم : إن أخوة يوسف عاهدوا أباهم فأخلفوه ، وحدثوه فكذبوه ، وائتمنهم عليه فخانوه ، وما كانوا منافقين .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 554 ] وقد حققنا ذلك في كتاب المشكلين .

                                                                                                                                                                                                              تحقيقه أن الحسن بن أبي الحسن البصري عالم من علماء الأمة قال : النفاق نفاقان : نفاق الكذب ، ونفاق العمل ، فأما نفاق الكذب فكان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما نفاق العمل فلا ينقطع إلى يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية