الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الثالثة :

                                                                                                                                                                                                              في هذه الآية جواز ركوب البحر ، وقد ورد ذلك في الحديث الصحيح من طريقين : روى أبو هريرة أن { رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له : إنا نركب البحر ، ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر ؟ قال : هو الطهور ماؤه الحل ميتته } .

                                                                                                                                                                                                              وروى أنس بن مالك أن { رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم حرام بنت ملحان ، فنام عندها ، ثم استيقظ وهو يضحك ، فقالت له : ما يضحكك يا رسول الله ؟ قال : ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة ، أو مثل الملوك على الأسرة . قالت : فادع الله أن يجعلني منهم . فدعا لها ، ثم وضع رأسه فنام ، ثم استيقظ يضحك ، فقالت : يا رسول الله ، وما يضحكك ؟ قال : ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله ملوكا على الأسرة ، أو مثل الملوك على الأسرة كما قال في الأولى . قالت ، فقلت : ادع الله أن يجعلني منهم . قال : أنت من الأولين } الحديث .

                                                                                                                                                                                                              ففي هذا كله دليل على جواز ركوب البحر ، ويدل عليه من طريق المعنى أن [ ص: 5 ] الضرورة تدعو إليه ; فإن الله ضرب به وسط الأرض ، فانفلقت ، وجعل الخلق في العدوتين ، وقسم المنافع بين الجهتين ، ولا يوصل إلى جلبها إلا بشق البحر [ لها ] ، فسهل الله سبيله بالفلك ، وعلمها نوحا صلى الله عليه وسلم وراثة في العالمين بما أراه جبريل ، وقال له : صورها على جؤجؤ الطائر ، فالسفينة طائر مقلوب ، والماء في استفاله للسفينة نظير الهواء في اعتلائه .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة :

                                                                                                                                                                                                              أما القرآن فيدل على جواز ركوب البحر مطلقا ، وأما الحديثان [ اللذان جلبناهما فيدل حديث أبي هريرة على جواز ركوب البحر مطلقا . وأما حديث أنس فيدل على جواز كونه في الغزو ، وهي رخصة من الله أجازها مع ] ما فيه من الغرر ، ولكن الغالب منه السلامة ; لأن الذين يركبونه لا حاصر لهم ، والذين يهلكون فيه محصورون .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الخامسة :

                                                                                                                                                                                                              قوله صلى الله عليه وسلم { ملوكا على الأسرة } : فيه قولان : أحدها : يركبون ظهره على الفلك ركوب الملوك الأسرة على الأرض .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : يركبون الفلك لسعة الحال والملك كأنهم أهل الملك .

                                                                                                                                                                                                              ويعارض هذا قوله تعالى : { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر } فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف هؤلاء بالملك ووصف الله هؤلاء بالمسكنة .

                                                                                                                                                                                                              ومن هذه المعارضة فر قوم فقالوا : إن القراءة فيها : أما السفينة فكانت لمساكين بتشديد السين . [ ص: 6 ]

                                                                                                                                                                                                              وقال قوم إنما وصفهم بالمسكنة لما هم عليه من عدم الحول والقوة في البحر وضعف الحيلة فيه أيضا ; فإن من أراد أن يعلم أن الحول والقوة لله عيانا فليركب البحر .

                                                                                                                                                                                                              وحقيقة المعنى فيه أن مسكنتهم كانت لوجهين :

                                                                                                                                                                                                              : أحدهما : لدخولهم البحر .

                                                                                                                                                                                                              والثاني : أنه لم يكن لهم مال ولا ملك إلا السفينة ، وهم لا يركبون البحر بالعدد والعدة ، والعزم والشدة ، يقصدون الغلبة ، وهذه حالة للملك .

                                                                                                                                                                                                              وقد روي أن عمر كان يتوقف في ركوب البحر للمسلمين ، لما كان يتوهم فيه من الغرر ، إذ لم يره إلا لضرورة كما ركبه المهاجرون إلى الحبشة للضرورة أولا وآخرا ، أما الأول ففي الفرار من نكاية المشركين ، وأما الآخر فلنصر النبي صلى الله عليه وسلم والكون معه .

                                                                                                                                                                                                              المسألة السادسة :

                                                                                                                                                                                                              إذا حصل المرء في ارتجاج البحر وغلبته وعصفه وتعابس أمواجه فاختلف العلماء في حكمه ، وقد تقدم شرحه في سورة الأعراف .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية