الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة :

                                                                                                                                                                                                              قضى الله بحكمته وحكمه أن يتكلم الناس ، هل أسري بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بروحه ؟ ولو لا مشيئة ربنا السابقة بالاختلاف لكانت المسألة أبين عند الإنصاف ; فإن المنكر لذلك لا يخلو أن يكون ملحدا ينكر القدرة ، ويرى أن الثقيل لا يصعد علوا ، وطبعه استفال فما باله يتكلم معنا في هذا الفرع ، وهو منكر للأصل ; وهو وجود الإله وقدرته ، وأنه يصرف الأشياء بالعلم والإرادة ، لا بالطبيعة .

                                                                                                                                                                                                              وإن كان المنكر من أغبياء الملة يقر معنا بالإلهية والعلم ، والإرادة والقدرة على التصريف والتدبير والتقدير ، فيقال له : وما الذي يمنع من ارتقاء النبي في الهواء بقدرة خالق الأرض والسماء ؟ [ ص: 179 ] فإن قال : لأنه لم يرد . قلنا له : قد ورد من كل طريق على لسان كل فريق ، منهم أبو ذر ; قال أنس : قال أبو ذر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فرج سقف بيتي ، وأنا بمكة ، فنزل جبريل ، ففرج صدري ، ثم غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغه في صدري ، ثم أطبقه ، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا ، فلما انتهينا إلى سماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء : افتح . قال : من هذا ؟ قال : هذا جبريل . قال : هل معك أحد ؟ قال : نعم ، معي محمد . فقال : أرسل إليه ؟ فقال : نعم . فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل على يمينه أسودة ، وعلى يساره أسودة ، إذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح ، والابن الصالح . قلت : يا جبريل ، من هذا ؟ قال : هذا آدم ، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه ، فأهل اليمين منهم أهل الجنة ، والأسودة التي عن شماله أهل النار ، فإذا نظر عن يمينه ضحك ، وإذا نظر عن شماله بكى . ثم عرج بي إلى السماء الثانية ، فقال لخازنها : افتح ، فقال له خازنها مثل ما قال له الأول ، ففتح . قال أنس : فذكر أنه وجد في السماء آدم ، وإدريس ، وموسى ، وعيسى ، وإبراهيم . }

                                                                                                                                                                                                              ولم يثبت كيف منازلهم ، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا ، وإبراهيم في السماء السادسة .

                                                                                                                                                                                                              قال أنس : { فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم مع جبريل بإدريس ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح ، والأخ الصالح . فقلت : من هذا ؟ قال : هذا إدريس . ثم مررت بموسى ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح . قلت : من هذا ؟ قال : موسى . ثم مررت بعيسى ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح . قلت : من هذا ؟ قال : عيسى . ثم مررت بإبراهيم ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح . قلت : من هذا ؟ قال : إبراهيم } .

                                                                                                                                                                                                              قال ابن شهاب : فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان : قال النبي صلى الله عليه وسلم : { ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام } .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 180 ] قال ابن حزم ، وأنس بن مالك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { ففرض الله على أمتي خمسين صلاة ، فرجعت بذلك حتى مررت بموسى ، فقال : ماذا فرض الله على أمتك ؟ قلت : فرض خمسين صلاة . قال : ارجع إلى ربك ; فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فراجعني ، فرجعت ، فوضع شطرها ، فرجعت إلى موسى ، قلت : وضع شطرها . فقال : ارجع إلى ربك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك . فرجعت ، فوضع شطرها ، فرجعت إليه ، فقال : ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فراجعته ، فقال : هي خمس ، وهي خمسون لا يبدل القول لدي . فرجعت إلى موسى ، فقال : ارجع إلى ربك ، فقلت : قد استحييت من ربي . قال : ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى ، وغشيها ألوان لا أدري ما هي ، ثم أدخلت الجنة ، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك } .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : فقد ثبت في الصحيح عن أنس أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { بينا أنا بين النائم واليقظان . } وذكر حديث الإسراء بطوله ، إلى أن قال : { ثم استيقظت ، وأنا في المسجد الحرام } .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : عنه أجوبة ; منها : أن هذا اللفظ رواه شريك عن أنس ، وكان تغير بآخرة فيعول على روايات الجميع .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنه يحتمل أنه أرى النبي صلى الله عليه وسلم الإسراء رؤيا منام ، وطده الله بها ، ثم أراه إياها رؤيا عين ، كما فعل به حين أراد مشافهته بالوحي ; { أرسل إليه الملك في المنام بنمط من ديباج فيه : اقرأ باسم ربك ، وقال له : اقرأ . فقال : ما أنا بقارئ ، فغطه حتى بلغ منه الجهد ، ثم أرسله ، فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ } إلى آخر الحديث . [ ص: 181 ]

                                                                                                                                                                                                              فلما كان بعد ذلك جاءه الملك في اليقظة بمثل ما أراده في المنام . وكانت الحكمة في ذلك أن أراه الله في المنام ما أراه من ذلك توطيدا وتثبيتا لنفسه ، حتى لا يأتيه الحال فجأة ، فتقاسي نفسه الكريمة منها شدة ، لعجز القوى الآدمية عن مباشرة الهيئة الملكية .

                                                                                                                                                                                                              وقد ثبت في الصحيح وغيره من طرق عن ابن عباس في قوله تعالى : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } ; ولو كانت رؤيا منام ما افتتن بها أحد ، ولا أنكرها ; فإنه لا يستبعد على أحد أن يرى نفسه يخترق السموات ، ويجلس على الكرسي ، ويكلمه الرب .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية