الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة السادسة عشرة : قال مالك : المبارئة المخالعة بمالها قبل الدخول ، والمخالعة إذا فعلت ذلك بعد الدخول ، والمفتدية المخالعة ببعض مالها ، وهذا اصطلاح يدخل بعضه على بعض .

                                                                                                                                                                                                              وقد اختلف الناس في ذلك ; فالأكثر أنه يجوز الخلع بالبعض من مالها ، وبالكل بأن تزيده على ما لها عليه من مالها المختص بها ما شاءت إذا كان الضرر من جهتها .

                                                                                                                                                                                                              وقال قوم : لا يجوز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ، منهم الشعبي وابن المسيب ، ويروى عن علي مثله ، ونص الحديث في قصة ثابت بن قيس يدل على جواز الخلع بجميع ما أعطاها ، وعموم القرآن يدل على جوازه بأكثر من ذلك لقوله تعالى : { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } فكل ما كان فداء فجائز على الإطلاق .

                                                                                                                                                                                                              المسألة السابعة عشرة : قوله تعالى : { فلا تعتدوها } بين تعالى أحكام النكاح والفراق ، ثم قال تعالى : تلك حدودي التي أمرت بامتثالها فلا تعتدوها ، كما بين تحريمات الصيام في الآية الأخرى ، ثم قال : تلك حدودي فلا تقربوها ، فقسم الحدود قسمين : منها حدود الأمر بالامتثال ، وحدود النهي بالاجتناب .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثامنة عشرة : احتج مشيخة خراسان من الحنفية على أن المختلعة يلحقها الطلاق بقوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره }

                                                                                                                                                                                                              قالوا : فشرع الله سبحانه وتعالى صريح الطلاق بعد المفاداة بالطلاق ; وإنما قلنا بعدها لأن الفاء حرف تعقيب .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 266 ] قلنا : معناه فإن طلقها ولم تعتد ، لأنه شرع قبل الابتداء بطلاقين فيكون الابتداء ثالثة ، ولا طلاق بعدها ليكون مرتبا عليها ، ويكون معقبا به ، فالصريح المذكور على سبيل المعاقبة معناه إن لم يكن فداء ولكن كان صريحا ، ودليله أن الله تعالى شرع طلقتين صريحتين ، ثم ذكر بعدهما إمساكا بمعروف أو تسريحا بإحسان ، إما بالترك لتبين ، وإما بالطلقة الثالثة ، فيكون تمليكا للثالثة ; فإن افتدت فلا جناح عليها فيه ، وإن لم تفتد وطلقها كان كذا ، كما أخبر به ، فيكون بيانا لكيفية التصرف فيما بقي من ملك الثالثة .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : حرف الفاء يقتضي الترتيب وقد رتب الصريح على الفداء فلا يعدل عنه ، وذلك أنه تعالى قال : { الطلاق مرتان } ثم قال : { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } أي فيما فدت به نفسها من نكاحها بمالها ، ولا بد في ذلك من طلاق فتكون المفاداة طلاقا بمال ، وذلك هو المذكور في قوله تعالى : { الطلاق مرتان } حتى لا يلزمنا ترك القول بالترتيب الذي يقتضيه حرف الفاء ، وعليه يدل مساق الآية ، لأنها سيقت لبيان عدد الطلاق وأحكام الواقع منه ; فبين تعالى أن العدد ثلاث ، وأن الصريح لا يمنع وقوع آخر لقوله تعالى {مرتان } وبين أنه لا يقطع الرجعة بقوله تعالى : { فإمساك بمعروف } ولا إيقاع الثالثة ، لقوله تعالى بعده : { أو تسريح بإحسان } لو لم يذكر الوقوع ببدل ولا حكم ما بعده ، فتبين بقوله تعالى : { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } أن الافتداء بالمال عن النكاح جائز ، وطلاق في الجملة ، وأنه لا رجعة بعده ، فإنه لم يذكر بعده رجعة ; فالآية سيقت لبيان جملة ، فيكون الترك بيانا . ثم قال تعالى : { فإن طلقها } فبين أن الصريح يقع بعد الطلاق بمال .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : هذا تطويل ليس وراءه تحصيل ; إنما قال الله تعالى : { فإمساك بمعروف } بما قد تردد في كلامنا . جملته أن الطلاق محصور في ثلاث ، وأن للزوج فيما دون الثلاثة الرجعة ، وأن الثالثة تحرمها إلى غاية ، وتبين مع ذلك كله تحريم أخذ الصداق [ ص: 267 ] إلا بعد رضا المرأة لما قد استوفى منها واستحل من فرجها ، وأحكم أنه لا حجة له في أن يقول : تأخذ بمقدار متعتي ، وآخذ بما بقي لي ، وأوضح أن للمرأة أن تفك نفسها من رق النكاح بمالها منه ومن غيره ، وسواء أخذه في الأولى أو الثانية ; أو الثالثة ، لقوله تعالى بعد ذكر أعداد الطلاق الثلاث والمرتين والتسريح : { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } كيفما كان الفداء ; فكان بيانا لجواز الفداء في الجملة كلها لا في محل مخصوص منها بأولى أو ثانية أو ثالثة .

                                                                                                                                                                                                              جواب آخر : وأما تحريم الرجعة في طلاق الخلع فليس من هذه الآية ، إنما اقتضت الآية تحريمها بالثالثة ، أو بالثلاث ، فأما سقوط الرجعة في المفاداة فمأخوذ من دليل آخر ، وهو حديث النبي صلى الله عليه وسلم في شأن ثابت بن قيس فمعناه وفرقه .

                                                                                                                                                                                                              جواب ثالث : أما قولهم : إن الصريح يقع بعد الطلاق ، فنقول : نعم ، ولكن في محله ; ألا ترى أن العدة لو انقضت لم يقع طلاق ثان ، ولا يقع إذا خالعها في الأولى ولا في الثانية .

                                                                                                                                                                                                              جواب رابع : قد بينا قبل هذا تقدير الآية ونظم مساقها بما يقتضيه لفظها ، لا بما لا يقتضيه ولا يدل عليه كما فعلوا ; فقارنوا بين الأمرين تجدوا البون بينا إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية