الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة عشرة : قوله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } قال علماؤنا : هذا فصل عظيم من فصول الفرائض ، وأصل عظيم من أصول الشريعة ; وذلك أن الله سبحانه جعل المال قواما للخلق ; ويسر لهم السبب إلى جمعه بوجوه متعبة ، ومعان عسيرة ، وركب في جبلاتهم الإكثار منه والزيادة على القوت الكافي المبلغ إلى المقصود ، وهو تاركه بالموت يقينا ، ومخلفه لغيره ، فمن رفق الخالق بالخلق صرفه عند فراق الدنيا ; إبقاء على العبد وتخفيفا من حسرته على أربعة أوجه : الأول : ما يحتاج إليه من كفنه وجهازه إلى قبره . الثاني : ما تبرأ به ذمته من دينه . الثالث : ما يتقرب به إلى الله من خير ليستدرك به ما فات في أيام مهلته . الرابع : ما يصير إلى ذوي قرابته الدانية وأنسابه المشتبكة المشتركة . فأما الأول فإنما قدم ; لأنه أولى بماله من غيره ، ولأن حاجته الماسة في الحال متقدمة على دينه ، وقد كان في حياته لا سبيل لقرابته إلى قوته ولباسه ، وكذلك في كفنه .

                                                                                                                                                                                                              وأما تقديم الدين فلأن ذمته مرتهنة بدينه ، وفرض الدين أولى من فعل الخير الذي يتقرب به . [ ص: 443 ]

                                                                                                                                                                                                              فأما تقديم الصدقة على الميراث في بعض المال ففيه مصلحة شرعية وإيالة دينية ; لأنه لو منع جميعه لفاته باب من البر عظيم ، ولو سلط عليه لما أبقى لورثته بالصدقة منه شيئا لأكثر الوارثين أو بعضهم ; فقسم الله سبحانه بحكمته المال وأعطى الخلق ثلث أموالهم في آخر أعمارهم ، وأبقى سائر المال للورثة ، كما قال عليه السلام : { إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس } . مع أنه كلالة منه بعيد عنه . وأراد بقوله : " خير " هاهنا وجوها معظمها أن ذلك سبب إلى ذكره بالجميل ، وإحياء ذكره هو إحدى الحياتين ، ومعنى مقصود عند العقلاء ، وقد أثنى الله سبحانه على الأنبياء في طريقه فقال : { وتركنا عليه في الآخرين } وأخبر عن رغبته فيه فقال : { واجعل لي لسان صدق في الآخرين }

                                                                                                                                                                                                              وإذا كان ورثته أغنياء عظم قدرهم ، وشرف ذكرهم في الطاعة وذكره . وقد ذكر الله تعالى الأوجه الثلاثة وترك الأول ; لأنه ليس بمتروك ، وإنما يكون متروكا ما فضل عن حاجته ومصلحته ; ولما جعل الله في القسم الثالث الوصية مشروعة مسوغة له ، وكلها إلى نظره لنفسه في أعيان الموصي لهم ، وبمقدار ما يصلح لهم . وقد كانت قبل ذلك مفروضة للوالدين والأقربين غير مقدرة ثم نسخ ذلك ، فروى أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله أعطى لكل ذي حق حقه ; لا وصية لوارث } . [ ص: 444 ]

                                                                                                                                                                                                              وقد روى البخاري عن { خباب قال : هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث ، ثم قال : ومنهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد ، فلم نجد له ما نكفنه فيه إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه ، وإذا غطينا بها رجليه بدا رأسه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : غطوا بها رأسه واجعلوا عليه من الإذخر } ; فبدأ بالكفن على كل شيء .

                                                                                                                                                                                                              وروى الأئمة ، { عن جابر أن أباه استشهد يوم أحد ، وترك ست بنات ، وترك دينا ، فلما حضر جداد النخل أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ; قد علمت أن والدي استشهد يوم أحد ، وترك عليه دينا ، وإني أحب أن يراك الغرماء . قال : اذهب فبيدر كل تمرة على حدة ففعلت : فلما دعوته وحضر عندي ونظروا إليه كأنما أغروا بي تلك الساعة ، فلما رأى ما يصنعون طاف حول أعظمها بيدرا فجلس عليه ، وقال : ادع أصحابك ; فما زال يكيل لهم حتى أدى الله أمانة والدي } . فقدم الدين على الميراث . وروى البخاري ، عن سلمة بن الأكوع قال : { كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتي بجنازة فقالوا : صل عليها ، فقال : هل عليه دين ؟ قالوا : لا ، فصلى عليه ، ثم أتي بجنازة أخرى فقالوا : يا رسول الله ، صل عليها . فقال : هل عليه دين ؟ قالوا : نعم . قال : فهل ترك شيئا ؟ قالوا : ثلاثة دنانير ، فصلى عليه . ثم أتي بالثالثة فقالوا : صل عليها . فقال : هل ترك شيئا ؟ قالوا : لا ، قال : أعليه دين ؟ قالوا : ثلاثة دنانير . [ ص: 445 ] قال : صلوا على صاحبكم . قال أبو قتادة : صل عليه يا رسول الله وعلي دينه ، فصلى عليه } ، فجعل الوفاء بمقابلة الدين .

                                                                                                                                                                                                              ولهذه الآثار والمعاني السالفة قال علي بن أبي طالب رواه الترمذي وغيره : إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية ، وأنتم تقدمون الوصية قبل الدين . فإن قيل : فما الحكمة في تقديم ذكر الوصية على ذكر الدين ، والدين مقدم عليها ؟ قلنا ; في ذلك خمسة أوجه :

                                                                                                                                                                                                              الأول : أن " أو " لا توجب ترتيبا ، إنما توجب تفصيلا ، فكأنه قال : من بعد أحدهما أو من بعدهما ، ولو ذكرهما بحرف الواو لأوهم الجمع والتشريك ; فكان ذكرهما بحرف " أو " المقتضي التفصيل أولى .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنه قدم الوصية ; لأن تسببها من قبل نفسه ، والدين ثابت مؤدى ذكره أم لم يذكره .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أن وجود الوصية أكثر من وجود الدين ; فقدم في الذكر ما يقع غالبا في الوجود .

                                                                                                                                                                                                              الرابع : أنه ذكر الوصية ، لأنه أمر مشكل ، هل يقصد ذلك ويلزم امتثاله أم لا ؟ لأن الدين كان ابتداء تاما مشهورا أنه لا بد منه ، فقدم المشكل ; لأنه أهم في البيان .

                                                                                                                                                                                                              الخامس : أن الوصية كانت مشروعة ثم نسخت في بعض الصور ، فلما ضعفها النسخ قويت بتقديم الذكر ; وذكرهما معا كان يقتضي أن تتعلق الوصية بجميع المال تعلق الدين . لكن الوصية خصصت ببعض المال ; لأنها لو جازت في جميع المال لاستغرقته ولم [ ص: 446 ] يوجد ميراث ; فخصصها الشرع ببعض المال ; بخلاف الدين ، فإنه أمر ينشئه بمقاصد صحيحة في الصحة والمرض ، بينة المناحي في كل حال ; يعم تعلقها بالمال كله . ولما قام الدليل وظهر المعنى في تخصيص الوصية ببعض المال قدرت ذلك الشريعة بالثلث ، وبينت المعنى المشار إليه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سعد ; { قال سعد للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، لي مال ولا يرثني إلا ابنة لي ، أفأتصدق بثلثي مالي الحديث ، إلى أن قال له النبي صلى الله عليه وسلم : الثلث والثلث كثير ، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس } . فظهرت المسألة قولا ومعنى وتبينت حكمة وحكما .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية