الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة التاسعة : قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } : هذا عموم متفق عليه ممن نفاه وممن أثبته ; وذلك أن الله تعالى عدد المحرمات ، ثم قال : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } ; فاختلف الناس في المراد به على ثلاثة أقوال : الأول : المراد به من عدا القرابة من المحرمات المذكورات . الثاني : ما دون الأربع . الثالث : ما ملكت أيمانكم .

                                                                                                                                                                                                              المسألة العاشرة : عجبا للأوائل كلفوا فهرفوا ; نظروا إلى السدي يقول : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } يعني ما دون الأربع ، وكم حرام بعد هذا ، وكأنه يشير إلى أن هذا العموم مخصوص فيما زاد على الأربع ، وكذلك قول عطاء : إنه فيما زاد على القرابة ، وبقي الأجانب غير مبينات ، ومثله قول قتادة ; بل أضعف ; لأنه رد التحليل إلى الإماء خاصة .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الحادية عشرة : اعلموا وفقكم الله تعالى أنا قد بينا أن الشرع لم يأت دفعة ، ولا وقع البيان في [ ص: 494 ] تفصيله في حالة واحدة ; وإنما جاء نجوما وشذر شذورا لمصلحة عامة وحكمة بالغة ; فلو شاء ربك لذكر المحرمات معدودات مشروحات في حالة واحدة ، ولكنه فرقها على السور والآيات ، وقسمها على الحالات والأوقات ; فاجتمعت العلماء وكملت في الدين ، كما كمل جميعه واستوثق وانتظم واتسق ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث } .

                                                                                                                                                                                                              وقد بلغ العلماء الأسباب المبيحة للدم إلى عشرة يأتي ذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى . وعدد المحرمات في الشريعة عندنا حسبما رتبنا من الأدلة في هذا الكتاب وغيره من النساء أربعون امرأة ، منهن أربع وعشرون حرمن تحريما مؤبدا ، ومنهن ست عشرة تحريمهن لعارض . فأما الأربع والعشرون فهن : الأم ، البنت ، الأخت ، العمة ، الخالة ، بنت الأخ ، بنت الأخت ، فهؤلاء سبع . ومن الرضاع مثلهن بالسنة وإجماع الأمة ، كملن أربع عشرة ، وحليلة الأب ، وحليلة الابن ، وأم الزوجة ، وربيبة الزوجة ، المدخول بها . ومن الجمع ثلاث ; وهن الأختان بنص القرآن ، والمرأة وعمتها ، والمرأة وخالتها ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم وبيانه ، وكذلك الملاعنة سنة ، والمنكوحة في العدة بإجماع الصحابة في قضاء عمر بن الخطاب ، وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وقد سقط هذا الوجه بموتهن .

                                                                                                                                                                                                              وأما المحرمات لعارض فهن : الخامسة ، والمزوجة ، والمعتدة ، والمستبرأة ، والحامل ، والمطلقة ثلاثا ، والمشركة ، والأمة الكافرة ، والأمة المسلمة لواجد الطول ; وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى ، وأمة الابن ، والمحرمة ، والمريضة ، ومن كان ذا محرم من زوجه [ ص: 495 ] اللاتي لا يجوز الجمع بينهن وبينها ، واليتيمة الصغيرة ، والمنكوحة عند النداء يوم الجمعة ; والمنكوحة عند الخطبة بعد التراكن . فأما السبع عشرة منهن فدليلهن ظاهر . وأما الملاعنة فمختلف فيها ; قال أبو حنيفة : ليس تحريمها مؤبدا فإنه إذا أكذب نفسه حل له رجعتها ، وبناء على أن فرقة اللعان طلاق ; لأجل أنها متعلقة بلفظ الزوج كالطلاق ، مفتقرة إلى الحاكم كطلاق العنين ، ولأنه سبب أوجبه اللعان ، فزال بالتكذيب ; فنفي بلعانه ويعود بتكذيبه . والنكتة العظمى لهم أنهم قالوا : أوجب حرمة لأوجد محرمية كالرضاع .

                                                                                                                                                                                                              وبالجملة فالمعاني لهم ، والنظائر والأصول معهم ، وليس لنا نحن إلا حديث ابن عمر في صحيح مسلم وغيره قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { حسابكما على الله ، أحدكما كاذب . لا سبيل لك عليها . قال : يا رسول الله ، مالي ؟ قال : لا مال لك . إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها } . وأما المنكوحة في العدة فهو النظر الصحيح ; لأنه استعجل محرما قبل حله فحرمه أبدا ; كالقاتل لا يمكن من الميراث ، والمستبرأة معتدة ، العلة واحدة ، والمحل واحد ، والسبب واحد ; فلما اتحدا اتحد الحكم والحامل أوقع ، والدليل فيها الجمع ، والمطلقة ثلاثا قرآنية ، وكذلك المشركة ، والأمتان تأتيان مبينتين إن شاء الله . وأما أمة الابن فكل محرم في كتاب الله مما تقدم بيانه فإن لفظه ومعناه عام في النكاح وملك اليمين ، فدخل فيه تحريم ملك اليمين ، وأمة الابن من حلائل الابن لفظا ، أو معنى ولفظا ، أو معنى من غير لفظ ، والكل في اقتضاء التحريم درجات ، وله مقتضيات ; وكذلك تحريم الجمع دخل فيه الجمع بملك اليمين لما بيناه .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 496 ] وأما المحرمة فقال أبو حنيفة والبخاري وجماعة : نكاح المحرم جائز بالعقد دون الوطء . وقال مالك والشافعي : لا يجوز ، ولا عمدة لهما فيه إلا حديث نبيه بن وهب ، خرجه مالك : { لا ينكح المحرم ، ولا ينكح } . وضعف البخاري نبيه بن وهب ، وتعديل مالك وعلمه به أقوى من علم كل بخاري وحجازي ، فلا يلتفت لغيره . وأما حديث البخاري في { ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها محرما } ، فعجبا للبخاري يدخله مع عظيم الخلاف فيه ويترك أمثاله ، ولا يعارض حديث نبيه المتفق عليه بحديث ميمونة المختلف فيه . والمسألة عظيمة قد بيناها في مسائل الخلاف .

                                                                                                                                                                                                              وأما نكاح المريض فمن مسائل الخلاف ; ومنعه مالك وجوزه أبو حنيفة والشافعي ; وقد بيناه في موضعه ; وكذلك اليتيمة الصغيرة لا تزوج بحال عندنا وعند الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يزوجها وليها ، ولها الخيار إذا بلغت ; فأفسد ما بنى وجعل حلا مترقبا ، وهي طيولية قد ذكرناها في التلخيص وغيره . فهذه جمل من المحرمات ثبتت في الشريعة بأدلتها وخصت من قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } . وتركب على هذا ما إذا زنى بامرأة ، هل يثبت زناه حرمة في فروعها وأصولها ؟ عن مالك في ذلك روايتان ودع من روى ، وما روي . أقام مالك عمره كله يقرأ عليه الموطأ ويقرأه لم يختلف قوله فيه : إن الحرام لا يحرم الحلال ، ولا شك في ذلك ، وقد بيناها في مسائل الخلاف ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية