الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            1223 - ( وعن أبي سعيد رضي الله عنه : { أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر ، فأمره أن يصلي ركعتين . } رواه الخمسة إلا أبا داود ، وصححه الترمذي ولفظه : { أن رجلا جاء يوم الجمعة في هيئة بذة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، فأمره فصلى ركعتين والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب } . قلت : وهذا يصرح بضعف ما روي أنه أمسك عن خطبته حتى فرغ من الركعتين ) .

                                                                                                                                            1224 - ( وعن جابر رضي الله عنه قال { : دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فقال : صليت ؟ قال : لا ، قال : فصل ركعتين } رواه الجماعة .

                                                                                                                                            وفي رواية : { إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما } رواه أحمد ومسلم وأبو داود .

                                                                                                                                            وفي رواية : { إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليصل ركعتين } متفق عليه ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            وفي الباب عن سهل بن سعد عند ابن أبي حاتم في العلل ، وأشار إليه الترمذي بنحو حديث أبي سعيد . وعن أبي قتادة الأئمة الستة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين } وقد تقدم . وعن أنس عند الدارقطني قال : { جاء رجل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قم فاركع ركعتين ، وأمسك من الخطبة حتى فرغ من صلاته } قال الدارقطني : أسنده عبيد بن محمد العبدي عن معتمر عن أبيه عن قتادة عن أنس ، ووهم فيه ، والصواب : عن معتمر عن أبيه ، كذلك رواه أحمد بن حنبل وغيره عن معتمر ، ثم رواه من طريق أحمد مرسلا . وعبيد بن محمد هذا روى عنه أبو حاتم ، وإنما حكم عليه الدارقطني بالوهم لمخالفته من هو أحفظ منه أحمد بن حنبل وغيره ، وهذا الحديث هو الذي أشار إليه المصنف

                                                                                                                                            وفي الباب أيضا عن سليك عند أحمد قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل [ ص: 305 ] ركعتين خفيفتين } ورواه أيضا ابن عدي في الكامل قوله : ( أن رجلا ) وكذلك قوله : " دخل رجل " هو سليك ، بمهملة مصغرا ، ابن هدية ، وقيل : ابن عمرو الغطفاني ، وقع مسمى في هذه القصة عند مسلم وأبي داود والدارقطني ، وقيل : هو النعمان بن قوقل ، كذا وقع عند الطبراني من رواية منصور بن أبي الأسود عن الأعمش .

                                                                                                                                            قال أبو حاتم الرازي : وهم فيه منصور . ووقع عند الطبراني أيضا من طريق أبي صالح عن أبي ذر " أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقال له : صليت ركعتين " الحديث ، وفي إسناده ابن لهيعة . قال الحافظ : المشهور عن أبي ذر أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد ، كذا عند ابن حبان وغيره .

                                                                                                                                            وعند الدارقطني " جاء رجل من قيس المسجد " فذكر نحو قصة سليك . قال الحافظ : لا يخالف كونه سليكا ، فإن غطفان من قيس قوله : ( صليت ) قال الحافظ : كذا للأكثر بحذف همزة الاستفهام ، وثبت في رواية الأصيلي . والأحاديث المذكورة في الباب تدل على مشروعية تحية المسجد حال الخطبة ، وإلى ذلك ذهب الحسن وابن عيينة والشافعي وأحمد وإسحاق ومكحول وأبو ثور وابن المنذر ، وحكاه النووي عن فقهاء المحدثين .

                                                                                                                                            وحكى ابن العربي أن محمد بن الحسن حكاه عن مالك . وذهب الثوري وأهل الكوفة إلى أنه يجلس ولا يصليهما حال الخطبة ، حكى ذلك الترمذي ، وحكاه القاضي عياض عن مالك والليث وأبي حنيفة وجمهور السلف من الصحابة والتابعين . وحكاه العراقي عن محمد بن سيرين وشريح القاضي والنخعي وقتادة والزهري

                                                                                                                                            ورواه ابن أبي شيبة عن علي وابن عمر وابن عباس وابن المسيب ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير ، ورواه النووي عن عثمان ، وإلى ذلك ذهبت الهادوية . وأجابوا عن أمره صلى الله عليه وسلم لسليك بأن ذلك واقعة عين لا عموم لها ، فيحتمل اختصاصها بسليك .

                                                                                                                                            قالوا : ويدل على ذلك ما وقع في حديث أبي سعيد { أن الرجل كان في هيئة بذة ، فقال له : أصليت ؟ قال : لا ، قال : صل الركعتين ، وحض الناس على الصدقة فأمره أن يصلي ليراه الناس وهو قائم فيتصدقون عليه } . ويؤيده أن في هذا الحديث عند أحمد " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن هذا الرجل دخل في هيئة بذة ، وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه " ويؤيده أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لسليك في آخر الحديث : " لا تعودن لمثل هذا " أخرجه ابن حبان .

                                                                                                                                            ورد هذا الجواب بأن الأصل عدم الخصوصية ، والتعليل بكونه صلى الله عليه وسلم قصد التصدق عليه لا يمنع القول بجواز التحية ، فإن المانعين لا يجوزون الصلاة في هذا الوقت لعلة التصدق ، ولو ساغ هذا لساغ مثله في سائر الأوقات المكروهة ولا قائل به ، كذا قال ابن المنير . ومما يرد هذا التأويل ما في الباب من قوله صلى الله عليه وسلم " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة . . . إلخ " فإن هذا نص لا يتطرق إليه التأويل

                                                                                                                                            قال النووي : لا أظن عالما يبلغه هذا اللفظ صحيحا [ ص: 306 ] فيخالفه ا هـ . قال الحافظ : والحامل للمانعين على التأويل المذكور أنهم زعموا أن ظاهره معارض لقوله تعالى { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له } وقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا قلت لصاحبك : أنصت ، والإمام يخطب فقد لغوت " متفق عليه .

                                                                                                                                            قالوا : فإذا امتنع الأمر بالمعروف وهو أمر اللاغي بالإنصات فمنع التشاغل بالتحية مع طول زمنها أولى . وعارضوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم للذي دخل يتخطى رقاب الناس وهو يخطب : " قد آذيت " وقد تقدم . قالوا : فأمره بالجلوس ولم يأمره بالتحية . وبما أخرجه الطبراني من حديث ابن عمر رفعه " إذا دخل أحدكم المسجد والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام " ويجاب عن ذلك كله بإمكان الجمع وهو مقدم على المعارضة المؤدية إلى إسقاط أحد الدليلين : أما في الآية فليست الخطبة قرآنا ، وما فيها من القرآن الآمر بالإنصات حال قراءته عام مخصص بأحاديث الباب . وأما حديث " إذا قلت لصاحبك أنصت " فهو وارد في المنع من المكالمة للغير ، ولا مكالمة في الصلاة ، ولو سلم أنه يتناول كل كلام حتى الكلام في الصلاة لكان عموما مخصصا بأحاديث الباب

                                                                                                                                            قال الحافظ : وأيضا فمصلي التحية يجوز أن يطلق عليه أنه منصت لحديث أبي هريرة المتقدم أنه قال : " يا رسول الله سكوتك بين التكبيرة والقراءة ما تقول فيه ؟ " فأطلق على القول سرا السكوت . وأما أمره صلى الله عليه وسلم لمن دخل يتخطى الرقاب بالجلوس فذلك واقعة عين ولا عموم لها ، فيحتمل أن يكون أمره بالجلوس قبل مشروعيتها ، أو أمره بالجلوس بشرطه وهو فعل التحية وقد عرفه قبل ذلك ، أو ترك أمره بالتحية لبيان الجواز ، أو لكون دخوله وقع في آخر الخطبة وقد ضاق الوقت عن التحية وأما حديث ابن عمر فهو ضعيف لأن في إسناده أيوب بن نهيك قال أبو زرعة وأبو حاتم : منكر الحديث ، والأحاديث الصحيحة لا تعارض بمثله . وقد أجاب المانعون عن أحاديث الباب بأجوبة غير ما تقدم ، وهي زيادة على عشرة أوردها الحافظ في الفتح ، بعضها ساقط لا ينبغي الاشتغال بذكره ، وبعضها لا ينبغي إهماله . فمن البعض الذي لا ينبغي إهماله قولهم : " إنه صلى الله عليه وسلم سكت عن خطبته حتى فرغ سليك من صلاته " قالوا : ويدل على ذلك حديث أنس المتقدم ويجاب عن ذلك بأن الدارقطني وهو الذي أخرجه قال : إنه مرسل أو معضل . وأيضا يعارضه اللفظ الذي أورده المصنف عن الترمذي على أنه لو تم لهم الاعتذار عن حديث سليك بمثل هذا لما تم لهم الاعتذار بمثله عن بقية أحاديث الباب المصرحة بأمر كل أحد إذا دخل المسجد والإمام يخطب أن يوقع الصلاة ، حال الخطبة .

                                                                                                                                            ومنها أنه لما تشاغل صلى الله عليه وسلم بمخاطبة سليك سقط فرض الاستماع ، إذ لم يكن منه صلى الله عليه وسلم خطبة في تلك الحال . وقد ادعى ابن العربي أن هذا أقوى الأجوبة . قال الحافظ : وهو أضعفها لأن المخاطبة لما انقضت رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى [ ص: 307 ] خطبته وتشاغل سليك بامتثال ما أمره به من الصلاة ، فصح أنه صلى حال الخطبة .

                                                                                                                                            ومنها أنهم اتفقوا على أن الإمام يسقط عنه التحية مع أنه لم يكن قد شرع في الخطبة ، فسقوطها عن المأموم بطريق الأولى . وتعقب بأنه قياس في مقابلة النص وهو فاسد الاعتبار . ومنها عمل أهل المدينة خلفا عن سلف من لدن الصحابة إلى عهد مالك أن التنفل في حال الخطبة ممنوع مطلقا .

                                                                                                                                            قال الحافظ : وتعقب بمنع اتفاق أهل المدينة ، فقد ثبت فعل التحية عن أبي سعيد ، روى ذلك عنه الترمذي وابن خزيمة وصححاه وهو من فقهاء الصحابة من أهل المدينة ، وحمله عنه أصحابه من أهل المدينة ، ولم يثبت عن أحد من الصحابة صريحا ما يخالف ذلك . وأما ما نقله ابن بطال عن عمر وعثمان وغير واحد من الصحابة من المنع مطلقا ، فاعتماده في ذلك على روايات عنهم فيها احتمال ، على أنه لا حجة في فعل أهل المدينة ولا في إجماعهم على فرض ثبوته ، كما تقرر في الأصول

                                                                                                                                            قوله في حديث الباب ( وليتجوز فيهما ) فيه مشروعية التخفيف لتلك الصلاة ليتفرغ لسماع الخطبة ، ولا خلاف في ذلك بين القائلين بأنها تشرع صلاة التحية حال الخطبة قوله : ( فليصل ركعتين ) فيه أن داخل المسجد حال الخطبة يقتصر على ركعتين . قال المصنف رحمه الله تعالى: ومفهومه يمنع من تجاوز الركعتين بمجرد خروج الإمام وإن لم يتكلم .

                                                                                                                                            وفي رواية عن أبي هريرة وجابر قال : { جاء سليك الغطفاني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فقال له : أصليت ركعتين قبل أن تجيء ؟ قال لا ، قال : فصل ركعتين وتجوز فيهما } رواه ابن ماجه ورجال إسناده ثقات . وقوله : " قبل أن تجيء " يدل على أن هاتين الركعتين سنة للجمعة قبلها وليستا تحية للمسجد ا هـ حديث ابن ماجه هذا هو كما قال المصنف وصححه العراقي ، وقد أخرجه أيضا أبو داود من حديث أبي هريرة والبخاري ومسلم من حديث جابر .

                                                                                                                                            وقد ذهب إلى مثل ما قال المصنف الأوزاعي فقال : إن كان صلى في البيت قبل أن يجيء فلا يصلي إذا دخل المسجد . وتعقب بأن المانع من صلاة التحية لا يجيز التنفل حال الخطبة مطلقا . قال في الفتح : ويحتمل أن يكون معنى قبل أن تجيء : أي إلى الموضع الذي أنت فيه .

                                                                                                                                            وفائدة الاستفهام احتمال أن يكون صلاها في مؤخر المسجد ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة كما تقدم في قصة الذي تخطى ، ويؤيده أن في رواية لمسلم : " أصليت الركعتين " بالألف واللام وهو للعهد ، ولا عهد هناك أقرب من تحية المسجد .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية