الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ما جاء في القيام للجنازة إذا مرت

                                                                                                                                            1456 - ( عن ابن عمر عن عامر بن ربيعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع } رواه الجماعة . ولأحمد " كان ابن عمر إذا رأى جنازة قام حتى تجاوزه . وله أيضا عنه : أنه ربما تقدم الجنازة فقعد حتى إذا رآها قد أشرفت قام حتى توضع ) .

                                                                                                                                            1457 - ( وعن جابر قال { : مر بنا جنازة ، فقام لها النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا معه ، فقلنا : يا رسول الله إنها جنازة يهودي ، فقال : إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها } ) . [ ص: 93 ]

                                                                                                                                            1458 - ( وعن سهل بن حنيف وقيس بن سعد أنهما كانا قاعدين بالقادسية فمروا عليهما بجنازة فقاما ، فقيل لهما : إنها من أهل الأرض : أي من أهل الذمة ، فقالا : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام ، فقيل له : إنها جنازة يهودي ، فقال : أليست نفسا } متفق عليهما . وللبخاري عن ابن أبي ليلى قال : كان أبو مسعود وقيس يقومان للجنازة )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            . قوله : ( حتى تخلفكم ) بضم أوله وفتح المعجمة وتشديد اللام المكسورة : أي تترككم وراءها . قوله : ( مر بنا ) في رواية الكشميهني " مرت " بفتح الميم . قوله : ( فقال { إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها } ) زاد البيهقي { إن الموت فزع } وكذا لمسلم من وجه آخر . قال القرطبي : معناه أن الموت يفزع . قال البيضاوي : وهو مصدر جرى مجرى الوصف للمبالغة أو فيه تقدير : أي الموت ذو فزع . ويؤيد ذلك ما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ : { إن للموت فزعا } وعن ابن عباس مثله عند البزار

                                                                                                                                            قوله : ( أليست نفسا ) هذا لا يعارض التعليل المتقدم حيث قال : { إن للموت فزعا } وكذا ما أخرجه الحاكم عن أنس مرفوعا { إنما قمنا للملائكة } ونحوه لأحمد من حديث أبي موسى . ولأحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا { إنما يقومون إعظاما للذي يقبض النفوس } ولفظ ابن حبان : { إعظاما لله تعالى الذي يقبض الأرواح } فإن ذلك لا ينافي التعليل السابق ; لأن القيام للفزع من الموت فيه تعظيم لأمر الله تعالى وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك وهم الملائكة . فأما ما أخرجه أحمد من حديث الحسن بن علي قال : " إنما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تأذيا بريح اليهود " زاد الطبراني " فأذاه ريح بخورها " وللطبراني والبيهقي من وجه آخر عنه كراهية أن يعلو على رأسه ، فإن ذلك لا يعارض الأخبار الأولى الصحيحة

                                                                                                                                            أما أولا فلأن أسانيد هذه لا تقاوم تلك في الصحة . وأما ثانيا فلأن التعليل بذلك راجع إلى ما فهمه الراوي ، والتعليل الماضي صريح من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، وكأن الراوي لم يسمع التصريح بالتعليل منه صلى الله عليه وسلم فعلل باجتهاده ، ومقتضى التعليل بقوله : " أليست نفسا " أن ذلك يستحب لكل جنازة . واختلف العلماء في هذه المسألة ، فذهب أحمد وإسحاق وابن حبيب وابن الماجشون أن القيام للجنازة لم ينسخ ، والقعود منه صلى الله عليه وسلم كما في حديث علي الآتي إنما هو لبيان الجواز ، فمن جلس فهو في سعة ، ومن قام فله أجر . وكذا قال ابن حزم : إن قعوده صلى الله عليه وسلم بعد أمره بالقيام يدل على أن الأمر للندب ، ولا يجوز أن يكون نسخا . قال النووي : والمختار أنه مستحب وبه قال المتولي وصاحب [ ص: 94 ] المهذب من الشافعية

                                                                                                                                            وممن ذهب إلى استحباب القيام ابن عمر وابن مسعود وقيس بن سعد وسهل بن حنيف كما يدل على ذلك الروايات المذكورة في الباب . وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي : إن القيام منسوخ بحديث علي الآتي . قال الشافعي : إما أن يكون القيام منسوخا أو يكون لعلة ، وأيهما كان ، فقد ثبت أنه تركه بعد فعله والحجة في الآخر من أمره والقعود أحب إلي انتهى . وسيأتي بيان ما هو الحق

                                                                                                                                            وظاهر أحاديث الباب أنه يشرع القيام لجنازة المسلم والكافر كما تقدم .

                                                                                                                                            1459 - ( وعن علي بن أبي طالب عليه السلام قال { : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ، ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس } . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه بنحوه ) . .

                                                                                                                                            1460 - ( وعن ابن سيرين { أن جنازة مرت بالحسن وابن عباس فقام الحسن ولم يقم ابن عباس ، فقال الحسن لابن عباس : أما قام لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : قام وقعد } . رواه أحمد والنسائي ) .

                                                                                                                                            الحديث الأول رجال إسناده ثقات عند أبي داود وابن ماجه ، وقد أخرجه ابن حبان بهذا اللفظ ، والبيهقي بلفظ : " ثم قعد بعد ذلك وأمرهم بالقعود " وقد خرج حديث علي مسلم باللفظ الذي تقدم في الباب الأول . والحديث الثاني رجال إسناده ثقات ، وقد أشار إليه الترمذي أيضا .

                                                                                                                                            وفي الباب عن عبادة بن الصامت عند أبي داود والترمذي وابن ماجه والبزار { أن يهوديا قال : لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم للجنازة هكذا يفعل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اجلسوا وخالفوهم } وفي إسناده بشر بن رافع وليس بالقوي كما قال الترمذي . وقال البزار : تفرد به بشر وهو لين قال الترمذي : حديث عبادة غريب . وقال أبو بكر الهمداني : لو صح لكان صريحا في النسخ ، غير أن حديث أبي سعيد أصح وأثبت فلا يقاومه هذا الإسناد ، وقد تمسك بهذه الأحاديث من قال إن القيام للجنازة منسوخ . وقد تقدم ذكرهم . قال القاضي عياض : ذهب جمع من السلف إلى أن الأمر بالقيام منسوخ بحديث علي هذا . وتعقبه النووي بأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع وهو ههنا ممكن . واعلم أن حديث علي باللفظ الذي سبق في الباب الأول لا يدل على النسخ لما عرفناك [ ص: 95 ] من أن فعله لا ينسخ القول الخاص بالأمة

                                                                                                                                            وأما حديثه باللفظ الذي ذكره هنا فإن صح صلح النسخ لقوله فيه : " وأمرنا بالجلوس " ولكنه لم يخرج هذه الزيادة مسلم ولا الترمذي ولا أبو داود بل اقتصروا على قوله : " ثم قعد " . وأما حديث ابن عباس فكذلك أيضا لا يدل على النسخ لما عرفت . وأما حديث عبادة بن الصامت فهو صريح في النسخ لولا ضعف إسناده فلا ينبغي أن يستند في نسخ تلك السنة الثابتة بالأحاديث الصحيحة من طريق جماعة من الصحابة إلى مثله ، بل المتحتم الأخذ بها ، واعتقاد مشروعيتها حتى يصح ناسخ صحيح ولا يكون إلا بأمر بالجلوس أو نهي عن القيام أو إخبار من الشارع بأن تلك السنة منسوخة بكذا ، واقتصار جمهور المخرجين لحديث علي عليه السلام وحفاظهم على مجرد القعود بدون ذكر زيادة الأمر بالجلوس مما يوجب عدم الاطمئنان إليها والتمسك بها في النسخ لما هو من الصحة في الغاية ، لا سيما بعد أن شد من عضدها عمل جماعة من الصحابة بها يبعد كل البعد أن يخفى على مثلهم الناسخ ووقوع ذلك منهم بعد عصر النبوة . ويمكن أن يقال : إن الأمر بالجلوس لا يعارض بفعل بعض الصحابة بعد أيام النبوة ; لأن من علم حجة على من لم يعلم . وحديث عبادة وإن كان ضعيفا فهو لا يقصر عن كونه شاهدا لحديث الأمر بالجلوس .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية