الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 177 ] أبواب إخراج الزكاة باب المبادرة إلى إخراجها

                                                                                                                                            1564 - ( عن عقبة بن الحارث قال : { صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر فأسرع ، ثم دخل البيت فلم يلبث أن خرج ، فقلت : أو قيل له : فقال كنت خلفت في البيت تبرا من الصدقة فكرهت أن أبيته فقسمته } رواه البخاري ) .

                                                                                                                                            1565 - ( وعن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { ما خالطت الصدقة مالا قط إلا أهلكته } رواه الشافعي والبخاري في تاريخه والحميدي ، وزاد قال : { يكون قد وجب عليك في مالك صدقة فلا تخرجها فيهلك الحرام الحلال } وقد احتج به من يرى تعلق الزكاة بالعين )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( تبرا ) بكسر المثناة وسكون الموحدة : الذهب الذي لم يصف ولم يضرب قال الجوهري : لا يقال إلا للذهب ، وقد قاله بعضهم في الفضة انتهى .

                                                                                                                                            ، وأطلقه بعضهم على جميع جواهر الأرض قبل أن تصاغ وتضرب ، حكاه ابن الأنباري عن الكسائي ، كذا أشار إليه ابن دريد قوله : ( أن أبيته ) أي أتركه يبيت عندي قوله : ( فقسمته ) في رواية البخاري " فأمرت بقسمته " والحديث الأول يدل على مشروعية المبادرة بإخراج الصدقة

                                                                                                                                            قال ابن بطال : فيه أن الخير ينبغي أن يبادر به ، فإن الآفات تعرض والموانع تمنع ، والموت لا يؤمن ، والتسويف غير محمود زاد غيره : وهو أخلص للذمة وأنفى للحاجة وأبعد من المطل المذموم وأرضى للرب تعالى وأمحى للذنب ، والحديث الثاني : يدل على أن مجرد مخالطة الصدقة لغيرها من الأموال سبب لإهلاكه وظاهره وإن كان الذي خلطها بغيرها من الأموال عازما على إخراجها بعد حين ; لأن التراخي عن الإخراج مما لا يبعد أن يكون سببا لهذه العقوبة ، أعني هلاك المال ، واحتجاج من احتج به على تعلق الزكاة بالعين صحيح ; لأنها لو كانت متعلقة بالذمة لم يستقم هذا الحديث لأنها لا تكون في جزء من أجزاء المال فلا يستقيم اختلاطها بغيرها ولا كونها سببا لإهلاك ما خالطته

                                                                                                                                            باب ما جاء في تعجيلها

                                                                                                                                            1566 - ( عن علي عليه السلام { أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي صلى الله عليه وسلم في [ ص: 178 ] تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك } رواه الخمسة إلا النسائي ) .

                                                                                                                                            1567 - ( وعن أبي هريرة قال : { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة ، فقيل : منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله ; وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا ، قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله تعالى ; وأما العباس فهي علي ومثلها معها ; ثم قال : يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه ؟ } رواه أحمد ومسلم وأخرجه البخاري وليس فيه ذكر عمر ، ولا ما قيل له في العباس ، وقال فيه " فهي عليه ومثلها معها " قال أبو عبيد : أرى - والله أعلم - أنه أخر عنه الصدقة عامين لحاجة عرضت للعباس وللإمام أن يؤخر على وجه النظر ، ثم يأخذه ، ومن روى فهي علي ومثلها ، فيقال : كان تسلف منه صدقة عامين ، ذلك العام والذي قبله ) حديث علي أخرجه أيضا الحاكم والدارقطني والبيهقي ، فيه اختلاف ذكره الدارقطني ورجح إرساله ، وكذا رجحه أبو داود وقال الشافعي : لا أدري أثبت أم لا ، يعني هذا الحديث ويشهد له ما أخرجه البيهقي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنا كنا احتجنا ، فأسلفنا العباس صدقة عامين } رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا ، ويعضده أيضا حديث أبي هريرة المذكور بعده قوله : ( ينقم ) بكسر القاف وفتحها والكسر أفصح وابن جميل هذا قال ابن الأثير : لا يعرف اسمه ، لكن وقع في تعليق القاضي حسين الشافعي وتبعه الروياني أن اسمه عبد الله ، وذكر الشيخ سراج الدين بن الملقن أن بعضهم سماه حميدا ووقع في رواية ابن جريج أبو جهم بن حذيفة بدل ابن جميل وهو خطأ لإطباق الجميع على ابن جميل وقول الأكثر : إنه كان أنصاريا ، وأما أبو جهم بن حذيفة فهو قرشي فافترقا

                                                                                                                                            قوله : ( وأعتاده ) جمع عتاد بفتح العين المهملة بعدها فوقية وبعد الألف دال مهملة ، والأعتاد : آلات الحرب من السلاح والدواب وغيرها ويجمع أيضا على أعتدة ومعنى ذلك أنهم طلبوا من خالد زكاة أعتاده ظنا منهم أنها للتجارة وأن الزكاة فيها واجبة ، فقال لهم : لا زكاة فيها علي ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن خالدا منع الزكاة فقال : إنكم تظلمونه ; لأنه حبسها ووقفها في سبيل الله تعالى قبل الحول عليها فلا زكاة فيها ، ويحتمل أن يكون المراد : لو وجبت عليه الزكاة لأعطاها ولم يشح بها ; لأنه قد وقف أمواله لله تعالى متبرعا فكيف يشح بواجب عليه واستنبط بعضهم من هذا وجوب زكاة [ ص: 179 ] التجارة ، وبه قال جمهور السلف والخلف خلافا لداود وفيه دليل على صحة الوقف وصحة وقف المنقول وبه قالت الأمة بأسرها إلا أبا حنيفة وبعض الكوفيين وقال بعضهم : هذه الصدقة التي منعها ابن جميل وخالد والعباس لم تكن زكاة إنما كانت صدقة تطوع ، حكاه القاضي عياض قال : ويؤيده أن عبد الرزاق روى هذا الحديث وذكر في روايته { أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى الصدقة } وذكر تمام الحديث قال ابن القصار من المالكية : وهذا التأويل أليق بالقصة ، ولا يظن بالصحابة منع الواجب ، وعلى هذا فعذر خالد واضح لأنه أخرج ماله في سبيل الله ، فما بقي له مال يحتمل المواساة بصدقة التطوع ، ويكون ابن جميل شح بصدقة التطوع فعتب عليه وقال في العباس : " هي علي ومثلها معها " أي أنه لا يمتنع إذا طلبت منه ، انتهى كلام ابن القصار قال القاضي عياض : ولكن ظاهر الأحاديث في الصحيحين أنها في الزكاة لقوله : { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة وإنما كان يبعث في الفريضة } ورجح هذا النووي قوله : ( فهي علي ومثلها معها ) مما يقوي أن المراد بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أنه تعجل من العباس صدقة عامين ما أخرجه أبو داود الطيالسي من حديث أبي رافع { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر : إنا كنا تعجلنا صدقة مال العباس عام الأول } وما أخرجه الطبراني والبزار من حديث ابن مسعود { أنه صلى الله عليه وسلم تسلف من العباس صدقة عامين } وفي إسناده محمد بن ذكوان وهو ضعيف ورواه البزار من حديث موسى بن طلحة عن أبيه نحوه ، في إسناده الحسن بن عمارة وهو متروك ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس وفي إسناده مندل بن علي والعزرمي وهما ضعيفان ، والصواب أنه : مرسل ومما يرجح أن المراد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أراد أن يتحمل ما عليه لأجل امتناعه لكفاه أن يتحمل مثلها من غير زيادة ، وأيضا الحمل على الامتناع فيه سوء ظن بالعباس

                                                                                                                                            والحديثان يدلان على أنه يجوز تعجيل الزكاة قبل الحول ولو لعامين ، وإلى ذلك ذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ، وبه قال الهادي والقاسم قال المؤيد بالله : وهو أفضل ، وقال مالك وربيعة وسفيان والثوري وداود وأبو عبيد بن الحارث ، ومن أهل البيت الناصر : إنه لا يجزئ حتى يحول الحول ، واستدلوا بالأحاديث التي فيها تعليق الوجوب بالحول وقد تقدم وتسليم ذلك لا يضر من قال بصحة التعجيل ; لأن الوجوب متعلق بالحول فلا نزاع وإنما النزاع في الإجزاء قبله




                                                                                                                                            الخدمات العلمية