الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ما جاء في يوم الغيم والشك

                                                                                                                                            1630 - ( عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا رأيتموه فصوموا ، وإذا [ ص: 225 ] رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له } أخرجاه هما والنسائي وابن ماجه وفي لفظ { الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين } رواه البخاري وفي لفظ أنه ذكر رمضان فضرب بيديه فقال : { الشهر هكذا وهكذا وهكذا ثم عقد إبهامه في الثالثة : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين } رواه مسلم وفي رواية أنه قال : { إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له } رواه مسلم وأحمد . وزاد قال نافع : وكان عبد الله إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يوما يبعث من ينظر فإن رأى فذاك وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( إذا رأيتموه ) أي الهلال هو عند الإسماعيلي بلفظ : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم { يقول لهلال رمضان : إذا رأيتموه فصوموا } وكذا أخرجه عبد الرزاق وظاهره إيجاب الصوم حين الرؤية متى وجدت ليلا أو نهارا لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل وهو ظاهر في النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال فيدخل فيه صورة الغم وغيرها . ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة لكفى ذلك لمن تمسك به لكن اللفظ الذي رواه أكثر الرواة أوقع للمخالف شبهة وهو قوله : " فإن غم عليكم فاقدروا له ' " فاحتمل أن يكون المراد التفرقة بين الصحو ; والغيم فيكون التعليق على الرؤية متعلقا بالصحو ، وأما الغيم فله حكم آخر ويحتمل أن لا تفرقة ويكون الثاني مؤكدا للأول وإلى الأول ذهب أكثر الحنابلة وإلى الثاني ذهب الجمهور فقالوا : المراد بقوله : " فاقدروا له " أي قدروا أول الشهر واحسبوا تمام الثلاثين ويرجح هذه الروايات المصرحة بإكمال العدة ثلاثين . قوله : ( فإن غم ) بضم المعجمة وتشديد الميم : أي حال بينه وبينكم سحاب أو نحوه .

                                                                                                                                            قوله : ( فاقدروا له ) قال أهل اللغة : يقال : قدرت الشيء أقدره ، وأقدره بكسر الدال وضمها وقدرته وأقدرته كلها بمعنى واحد وهي من التقدير كما قال الخطابي ومعناه عند الشافعية والحنفية وجمهور السلف والخلف : فاقدروا له تمام الثلاثين يوما لا كما قال أحمد بن حنبل وغيره إن معناه فذروه تحت السحاب فإنه يكفي في رد ذلك الروايات المصرحة بالثلاثين كما تقدم ولا كما قال جماعة منهم : ابن شريح ومطرف بن عبد الله وابن قتيبة أن معناه قدروه بحساب المنازل قال في الفتح قال ابن عبد البر لا يصح عن مطرف وأما ابن قتيبة فليس هو ممن يعرج عليه في مثل هذا ولا كما نقله ابن العربي عن ابن شريح أن قوله فاقدروا له خطاب لمن خصه الله بهذا العلم . وقوله : [ ص: 226 ] فأكملوا العدة " خطاب للعامة ; لأنه كما قال ابن العربي أيضا : يستلزم اختلاف وجوب رمضان ، فيجب على قوم بحساب الشمس والقمر ، وعلى آخرين بحساب العدد ، قال : وهذا بعيد عن النبلاء .

                                                                                                                                            قوله . : ( الشهر تسع وعشرون ) ظاهره حصر الشهر في تسع وعشرين مع أنه لا ينحصر فيه بل قد يكون ثلاثين . والمعنى أن الشهر يكون تسعة وعشرين ، أو اللام للعهد والمراد شهر بعينه . ويؤيد الأول ما وقع في رواية لأم سلمة من حديث الباب بلفظ { الشهر يكون تسعة وعشرين } . ويؤيد الثاني قول ابن مسعود { صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين } أخرجه أبو داود والترمذي ، ومثله عن عائشة عند أحمد بإسناد جيد . قوله : ( فلا تصوموا حتى تروه ) ليس المراد تعليق الصوم بالرؤية في كل أحد ، بل المراد بذلك رؤية البعض ، إما واحد على رأي الجمهور أو اثنان على رأي غيرهم وقد تقدم الكلام على ذلك ، وقد تمسك بتعليق الصوم بالرؤية من ذهب إلى إلزام أهل البلد برؤية أهل بلد غيرها ، وسيأتي تحقيقه .

                                                                                                                                            قوله : ( الشهر هكذا وهكذا . . . إلخ ) قال النووي : حاصله أن الاعتبار بالهلال ، لأن الشهر قد يكون تاما ثلاثين ، وقد يكون ناقصا تسعة وعشرين ، وقد لا يرى الهلال فيجب إكمال العدة ثلاثين ، قالوا : وقد يقع النقص متواليا في شهرين وثلاثة وأربعة ، ولا يقع أكثر من أربعة .

                                                                                                                                            وفي هذا الحديث جواز اعتماد إشارة . قوله : ( قتر ) بفتح القاف والتاء الفوقية وبعدها راء : هو الغبرة على ما في القاموس . قوله : ( أصبح صائما ) فيه دليل على أن ابن عمر كان يقول بصوم الشك ، وسيأتي بسط الكلام في ذلك .

                                                                                                                                            1631 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين } رواه البخاري ومسلم وقال : { فإن غبي عليكم فعدوا ثلاثين } وفي لفظ { صوموا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين } رواه أحمد .

                                                                                                                                            وفي لفظ { إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما } رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي .

                                                                                                                                            وفي لفظ { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا } رواه أحمد والترمذي وصححه ) .

                                                                                                                                            قوله : ( { صوموا لرؤيته } ) اللام للتأقيت لا للتعليل ، وسيأتي الكلام على ذلك في باب [ ص: 227 ] ما جاء في استقبال رمضان باليوم واليومين قوله : ( فإن غبي ) بفتح الغين المعجمة وكسر الباء الموحدة مخففة ، وهي بمعنى غم مأخوذ من الغباوة وهي عدم الفطنة استعار ذلك لخفاء الهلال قوله : ( فإن غمي عليكم ) بضم الغين المعجمة وتشديد الميم وتخفيفها فهو مغموم وهو بمعنى غم . ونقل ابن العربي أنه روي عمي بالعين المهملة من العمى وهو بمعناه ; لأنه ذهاب البصر عن المشاهدات أو البصيرة عن المعقولات . والحديث يدل على أنه يجب على من لم يشاهد الهلال ولا أخبره من شاهده أن يكمل عدة شعبان ثلاثين يوما ثم يصوم ، ولا يجوز له أن يصوم يوم الثلاثين من شعبان خلافا لمن قال بصوم يوم الشك ، وسيأتي ذكرهم ويكمل عدة رمضان ثلاثين يوما ثم يفطر ولا خلاف في ذلك .

                                                                                                                                            1632 - ( وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن حال بينكم وبينه سحاب فكملوا العدة ثلاثين ، ولا تستقبلوا الشهر استقبالا } رواه أحمد والنسائي والترمذي بمعناه وصححه .

                                                                                                                                            وفيه في لفظ للنسائي { فأكملوا العدة عدة شعبان } رواه من حديث أبي يونس عن سماك عن عكرمة عنه .

                                                                                                                                            وفي لفظ { لا تقدموا الشهر بصيام يوم ولا يومين ، إلا أن يكون شيئا يصومه أحدكم ، ولا تصوموا حتى تروه ثم صوموا حتى تروه ، فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين ثم أفطروا } رواه أبو داود ) .

                                                                                                                                            1633 - ( وعن عائشة قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظه من غيره ، يصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام } . رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وقال : إسناد حسن صحيح ) .

                                                                                                                                            1634 - ( وعن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة } ; رواه أبو داود والنسائي ) .

                                                                                                                                            1635 - ( وعن عمار بن ياسر قال : { من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى [ ص: 228 ] أبا القاسم محمدا صلى الله عليه وسلم } رواه الخمسة إلا أحمد وصححه الترمذي وهو للبخاري تعليقا ) .

                                                                                                                                            حديث ابن عباس أخرجه أيضا ابن حبان وابن خزيمة والحاكم وهو من صحيح حديث سماك بن حرب لم يدلس فيه ولم يلقن أيضا فإنه من رواية شعبة عنه وكان شعبة لا يأخذه عن شيوخه ما دلسوا فيه ولا ما لقنوا . وحديث عائشة صححه أيضا الحافظ . وحديث حذيفة أخرجه أيضا ابن حبان من طريق جابر عن منصور عن ربعي عن حذيفة . وحديث عمار أخرجه أيضا ابن حبان وابن خزيمة وصححاه والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث صلة بن زفر قال : " كنا عند عمار " فذكره ، وعلقه البخاري في صحيحه عن صلة وليس هو عند مسلم . وقد وهم من عزاه إليه . قال ابن عبد البر : هذا مسند عندهم مرفوع لا يختلفون في ذلك ، وزعم أبو القاسم الجوهري أنه موقوف ورد عليه . ورواه إسحاق بن راهويه عن وكيع عن سفيان عن سماك عن عكرمة . ورواه الخطيب وزاد فيه ابن عباس .

                                                                                                                                            وفي الباب عن أبي هريرة عند ابن عدي في ترجمة علي القرشي وهو ضعيف . وعنه أيضا حديث آخر عند النسائي بلفظ : { ولا تستقبلوا الشهر بصوم يوم أو يومين إلا أن يوافق ذلك صياما كان يصومه أحدكم } وعنه أيضا حديث آخر عند البزار بلفظ : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام ستة أيام أحدها اليوم الذي يشك فيه } وفي إسناده عبد الله بن سعيد المقبري عن جده وهو ضعيف . وأخرجه أيضا الدارقطني وفي إسناده الواقدي وأخرجه أيضا البيهقي وفي إسناده عباد وهو عبد الله بن سعيد المقبري المتقدم وهو منكر الحديث كما قال أحمد بن حنبل .

                                                                                                                                            وقد استدل بهذه الأحاديث على المنع من صوم يوم الشك . قال النووي : وبه قال مالك والشافعي والجمهور . وحكى الحافظ في الفتح عن مالك وأبي حنيفة : أنه لا يجوز صومه عن فرض رمضان ويجوز عما سوى ذلك . قال ابن الجوزي في التحقيق ولأحمد في هذه المسألة وهي إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو غيره ليلة الثلاثين من شعبان ثلاثة أقوال : أحدها يجب صومه على أنه من رمضان . وثانيها لا يجوز فرضا ولا نفلا مطلقا ، بل قضاء وكفارة ونذرا ونفلا يوافق عادة . ثالثها المرجع إلى رأي الإمام في الصوم والفطر . وذهب جماعة من الصحابة إلى صومه ، منهم علي وعائشة وعمر وابن عمر وأنس بن مالك وأسماء بنت أبي بكر وأبو هريرة ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم وجماعة من التابعين ، منهم مجاهد وطاوس وسالم بن عبد الله وميمون بن مهران ومطرف بن الشخير وبكر بن عبد الله المزني وأبو عثمان النهدي . وقال جماعة من أهل البيت باستحبابه ، وقد ادعى المؤيد بالله أنه أجمع على استحباب صومه [ ص: 229 ] أهل البيت ، وهكذا قال الأمير الحسين في الشفاء والمهدي في البحر وقد أسند لابن القيم في الهدي الرواية عن الصحابة المتقدم ذكرهم القائلين بصومه وحكى القوم بصومه عن جميع من ذكرنا منهم ومن التابعين وقال : وهو مذهب إمام أهل الحديث والسنة أحمد بن حنبل واستدل المجوزون لصومه بأدلة : منها ما أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي عن أم سلمة { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه } وأجيب عنه بأن مرادها أنه كان يصوم شعبان كله لما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من حديثها قالت { ما رأيته يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان } وهو غير محل النزاع لأن ذلك جائز عند المانعين من صوم يوم الشك لما في الحديث الصحيح المتفق عليه من قوله صلى الله عليه وسلم : { إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه } .

                                                                                                                                            وأيضا قد تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة ولا العام له ولهم لأنه يكون فعله مخصصا له من العموم ومنها ما أخرجه الشافعي عن علي عليه السلام قال : " لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان " وأجيب بأن ذلك من رواية فاطمة بنت الحسين عن علي وهي لم تدركه فالرواية المنقطعة ولو سلم الاتصال فليس بنافع لأن لفظ الرواية " أن رجلا شهد عند علي على رؤية الهلال فصام وأمر الناس أن يصوموا ثم قال : لأن أصوم . . . إلخ " فالصوم لقيام شهادة واحدة عنده لا لكونه يوم شك وأيضا الاحتجاج بذلك على فرض أنه عليه السلام استحب صوم يوم الشك من غير نظر إلى شهادة الشاهد إنما يكون حجة على من قال بأن قوله حجة على أنه قد روي عنه القول بكراهة صومه حكى ذلك عنه صاحب الهدي قال ابن عبد البر : وممن روي عنه كراهة صوم يوم الشك عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعمار وابن مسعود وحذيفة وابن عباس وأبو هريرة وأنس بن مالك ، والحاصل أن الصحابة مختلفون في ذلك وليس قول بعضهم بحجة على أحد والحجة ما جاءنا عن الشارع وقد عرفته وقد استوفيت الكلام على هذه المسألة في الأبحاث التي كتبتها على رسالة الجلال وسيأتي الكلام على استقبال رمضان بيوم أو يومين في آخر الكتاب - إن شاء الله تعالى - .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية