الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 252 ] باب من أصبح جنبا وهو صائم

                                                                                                                                            1660 - ( عن عائشة { أن رجلا قال : يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم . فقال : لست مثلنا يا رسول الله ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر . فقال : والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي } رواه أحمد ومسلم وأبو داود ) .

                                                                                                                                            1661 - ( وعن عائشة وأم سلمة : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم في رمضان } . متفق عليه ) .

                                                                                                                                            1662 - ( وعن أم سلمة قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع لا حلم ثم لا يفطر ولا يقضي } . أخرجاه ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            هذه الأحاديث استدل بها من قال : إن من أصبح جنبا فصومه صحيح ولا قضاء عليه من غير فرق أن تكون الجنابة عن جماع أو غيره ، وإليه ذهب الجمهور ، وجزم النووي بأنه استقر الإجماع على ذلك . وقال ابن دقيق العيد : إنه صار ذلك إجماعا أو كالإجماع . وقد ثبت من حديث أبي هريرة ما يخالف أحاديث الباب ، فأخرج الشيخان عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : { من أصبح جنبا فلا صوم له } وقد بقي على العمل بحديث أبي هريرة هذا بعض التابعين كما نقله الترمذي . ورواه عبد الرزاق عن عروة بن الزبير ، وحكاه ابن المنذر عن طاوس . قال ابن بطال : وهو أحد قولي أبي هريرة . قال الحافظ : ولم يصح عنه لأن ابن المنذر رواه عنه من طريق أبي المهزم وهو ضعيف . وحكى ابن المنذر أيضا عن الحسن البصري وسالم بن عبد الله بن عمر أنه يتم صومه ثم يقضيه . وروى عبد الرزاق عن عطاء مثل قولهما . قال في الفتح : ونقل بعض المتأخرين عن الحسن بن صالح بن حي إيجاب القضاء ، والذي نقله عنه الطحاوي استحبابه . ونقل ابن عبد البر عنه . وعن النخعي إيجاب القضاء في الفرض دون التطوع .

                                                                                                                                            ونقل الماوردي أن هذا الاختلاف كله إنما هو في حق الجنب ، وأما المحتلم فأجمعوا على أنه يجزئه . وتعقبه الحافظ بما أخرجه النسائي بإسناد صحيح عن أبي هريرة أنه أفتى من أصبح جنبا من احتلام أن يفطر .

                                                                                                                                            وفي رواية أخرى عنه عند النسائي أيضا { من احتلم من الليل أو واقع أهله [ ص: 253 ] ثم أدركه الفجر ولم يغتسل فلا يصم } وأجاب القائلون بأن من أصبح جنبا يفطر عن أحاديث الباب بأجوبة منها أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم . ورد الجمهور بأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل ، وبأن حديث عائشة المذكور في أول الباب يقتضي عدم اختصاصه صلى الله عليه وسلم بذلك . وجمع بعضهم بين الحديثين بأن الأمر في حديث أبي هريرة أمر إرشاد إلى الأفضل ، فإن الأفضل أن يغتسل قبل الفجر ، فلو خالف جاز ، ويحمل حديث عائشة على بيان الجواز . وقد نقل النووي هذا الجمع عن أصحاب الشافعي .

                                                                                                                                            وتعقبه الحافظ بأن الذي نقله البيهقي وغيره عن أصحاب الشافعي هو سلوك طريق الترجيح . وعن ابن المنذر وغيره سلوك النسخ وبالنسخ قال الخطابي . وقواه ابن دقيق العيد بأن قوله تعالى: { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } ، يقتضي إباحة الوطء في ليلة الصوم ومن جملتها الوقت المقارن لطلوع الفجر فيلزم إباحة الجماع فيه ، ومن ضرورته أن يصبح فاعل ذلك جنبا ولا يفسد صومه . ويقوي ذلك أن قول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم : " قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر " يدل على أن ذلك بعد نزول الآية وهي إنما نزلت عام الحديبية سنة ست ، وابتداء فرض الصيام كان في السنة الثانية ، ويؤيد دعوى النسخ رجوع أبي هريرة عن الفتوى بذلك كما في رواية للبخاري " أنه لما أخبر بما قالت أم سلمة وعائشة فقال : هما أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي رواية ابن جريج فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك ، وكذا وقع عند النسائي أنه رجع ، وكذا عند ابن أبي شيبة .

                                                                                                                                            وفي رواية للنسائي أن أبا هريرة أحال بذلك على الفضل بن عباس ووقع نحو ذلك في البخاري وقال : إنه حدثه بذلك الفضل .

                                                                                                                                            وفي رواية أنه قال : حدثني بذلك أسامة .

                                                                                                                                            وأما ما أخرجه ابن عبد البر عن أبي هريرة أنه قال : " كنت حدثتكم من أصبح جنبا فقد أفطر ، وأن ذلك من كيس أبي هريرة " فقال الحافظ : لا يصح ذلك عن أبي هريرة لأنه من رواية عمر بن قيس وهو متروك . ومن حجج من سلك طريق الترجيح ما قاله ابن عبد البر : إنه صح وتواتر حديث عائشة وأم سلمة . وأما حديث أبي هريرة فأكثر الروايات عنه أنه كان يفتي بذلك ، وأيضا رواية اثنين مقدمة على رواية واحدة ، ولا سيما وهما زوجتان للنبي صلى الله عليه وسلم ، والزوجات أعلم بأحوال الأزواج ، وأيضا روايتهما موافقة للمنقول ، وهو ما تقدم من مدلول الآية وللمعقول ، وهو أن الغسل شيء وجب بالإنزال وليس في فعله شيء يحرم على الصائم ، فإن الصائم قد يحتلم بالنهار فيجب عليه الغسل ولا يفسد صومه بل يتمه إجماعا قوله : ( ولا يقضي ) عزاه المصنف إلى البخاري ومسلم ولم نجده في البخاري ، بل هو مما انفرد به مسلم فينظر ذلك .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية