الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ما يصنع من أراد الإحرام من الغسل والتطيب ونزع المخيط وغيره .

                                                                                                                                            1828 - ( عن ابن عباس رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم { إن النفساء والحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلها غير أن لا تطوف بالبيت } رواه أبو داود والترمذي ) .

                                                                                                                                            1829 - ( وعن عائشة قالت : { كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم عند إحرامه بأطيب ما أجد وفي رواية : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم تطيب بأطيب ما يجد ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته بعد ذلك أخرجاهما } )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            . حديث ابن عباس في إسناده خصيف بن عبد الرحمن الحراني ، كنيته : أبو عون . قال المنذري : وقد ضعفه غير واحد . وقال في التقريب : صدوق سيئ الحفظ خلط بأخرة ورمي بالإرجاء . وقد استدل المصنف بهذا الحديث على أنه يشرع للمحرم الاغتسال عند ابتداء الإحرام وهو محتمل لإمكان أن يكون الغسل لأجل قذر الحيض ، ولكن في الباب أحاديث تدل على مشروعية الغسل للإحرام .

                                                                                                                                            وقد تقدمت في أبواب الغسل فليرجع إليها قوله : ( عند إحرامه ) أي في وقت إحرامه . وللنسائي حين أراد أن يحرم .

                                                                                                                                            وفي البخاري لإحرامه ولحله . قوله : ( وبيص ) بالموحدة المكسورة وبعدها تحتية ساكنة وآخره صاد مهملة وهو البريق . وقال الإسماعيلي : إن الوبيص : زيادة على البريق ، وأن المراد به التلألؤ ، وأنه يدل على وجود عين قائمة لا الريح . واستدل بالحديث على استحباب التطيب عند إرادة الإحرام ولو بقيت رائحته عند الإحرام ، وعلى أنه لا يضر بقاء رائحته ولونه ، وإنما المحرم ابتداؤه بعد الإحرام . قال في الفتح : وهو قول الجمهور . وذهب ابن عمر [ ص: 360 ] ومالك ومحمد بن الحسن والزهري وبعض أصحاب الشافعي ومن أهل البيت الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله وأبو طالب إلى أنه لا يجوز التطيب عند الإحرام . واختلفوا هل هو محرم أو مكروه ؟ وهل تلزم الفدية أو لا ؟ واستدلوا على عدم الجواز بأدلة منها ما وقع عند البخاري وغيره بلفظ : { ثم طاف على نسائه ثم أصبح محرما } والطواف : الجماع ومن لازمه الغسل بعده ، فهذا يدل أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل بعد أن تطيب . وأجيب عن هذا بما في البخاري أيضا بلفظ : { ثم أصبح محرما ينضح طيبا } وهو ظاهر في أن نضح الطيب وظهور رائحته كان في حال إحرامه ، ودعوى بعضهم أن فيه تقديما وتأخيرا ، والتقدير : طاف على نسائه ينضح طيبا ثم أصبح محرما خلاف الظاهر ، ويرده قول عائشة المذكور : " ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته بعد ذلك " وفي رواية لها " ثم أراه في رأسه ولحيته بعد ذلك " وفي رواية للنسائي وابن حبان { رأيت الطيب في مفرقه بعد ثلاث وهو محرم } وفي رواية متفق عليها { كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أيام } ولمسلم " وبيص المسك " وسيأتي ذلك في باب منع المحرم من ابتداء الطيب

                                                                                                                                            ومن أدلتهم نهيه صلى الله عليه وسلم عن الثوب الذي مسه الورس والزعفران كما سيأتي في أبواب ما يتجنبه المحرم . وأجيب بأن تحريم الطيب على من قد صار محرما مجمع عليه ، والنزاع إنما هو في التطيب عند إرادة الإحرام واستمرار أثره لا ابتدائه . ومنها أمره صلى الله عليه وسلم للأعرابي بنزع المنطقة وغسلها عن الخلوق وهو متفق عليه . ويجاب عنه بمثل الجواب عن الذي قبله ، ولا يخفى أن غاية هذين الحديثين تحريم لبس ما مسه الطيب . ومحل النزاع تطيب البدن ، ولكنه سيأتي في باب ما يصنع من أحرم في قميص أمره صلى الله عليه وسلم لمن سأله بأنه يغسل الخلوق عن بدنه وسيأتي الجواب عنه . وقد أجاب عن حديث الباب المهلب وأبو الحسن بن القصار وأبو الفرج من المالكية بأن ذلك من خصائصه

                                                                                                                                            ويرده ما أخرجه أبو داود وابن أبي شيبة عن عائشة قالت : { كنا ننضح وجوهنا بالمسك الطيب قبل أن نحرم ثم نحرم فنعرق ويسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا } وهو صريح في بقاء عين الطيب وفي عدم اختصاصه بالنبي صلى الله عليه وسلم . وسيأتي الحديث في باب منع المحرم من ابتداء الطيب . قال في الفتح : ولا يقال : إن ذلك خاص بالنساء لأنهم أجمعوا على أن النساء والرجال سواء في تحريم استعمال الطيب إذا كانوا محرمين . وقال بعضهم : كان ذلك طيبا لا رائحة له لما وقع في رواية عن عائشة " بطيب لا يشبه طيبكم " قال بعض رواته : يعني لا بقاء له ، أخرجه النسائي . ويرده ما تقدم في الذي قبله ، وأيضا المراد بقولها " لا يشبه طيبكم " أي أطيب منه كما يدل على ذلك ما عند مسلم عنها بلفظ : " بطيب فيه مسك " وفي أخرى عنها له " كأني أنظر إلى وبيص المسك " وأوضح من [ ص: 361 ] ذلك قولها في حديث الباب " بأطيب ما نجد " ولهم جوابات أخر غير ناهضة فتركها أولى

                                                                                                                                            والحق أن المحرم من الطيب على المحرم هو ما تطيب به ابتداء بعد إحرامه لا ما فعله عند إرادة الإحرام وبقي أثره لونا وريحا . ولا يصح أن يقال : لا يجوز استدامة الطيب قياسا على عدم جواز استدامة اللباس ; لأن استدامة اللبس ليس بخلاف استدامة الطيب فليست بطيب سلمنا استواءهما ، فهذا قياس في مقابلة النص وهو فاسد الاعتبار .

                                                                                                                                            1830 - ( وعن ابن عمر في حديث له عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين ، فإن لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين } رواه أحمد ) .

                                                                                                                                            هذا الحديث ذكره صاحب المهذب عن ابن عمر . قال الحافظ : كأنه أخذه من كلام ابن المنذر فإنه ذكره كذلك بغير إسناد ، وقد بيض له المنذري والنووي في الكلام على المهذب ، ووهم من عزاه إلى الترمذي ، وقد عزاه المصنف إلى أحمد ، قال في مجمع الزوائد : أخرجه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن ، وهو ببعض ألفاظه للجماعة كلهم كما سيأتي في باب : ما يتجنبه المحرم من اللباس ، وهو أيضا متفق على بعض ما فيه من حديث ابن عباس .

                                                                                                                                            وفيه دليل على أنه يجوز للمحرم لبس الإزار والرداء والنعلين . وفي البخاري من حديث ابن عباس قال : { انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه فلم ينه عن شيء ، من الأردية والأزر تلبس إلا المزعفرات التي تردع على الجلد } قوله : ( وليقطعهما أسفل من الكعبين ) الكعبان : هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم ، وهذا هو المعروف عند أهل اللغة

                                                                                                                                            واستدل به على اشتراط القطع خلافا للمشهور عن أحمد فإنه أجاز لبس الخفين من غير قطع ، واستدل على ذلك بحديث ابن عباس الآتي في باب ما يتجنبه المحرم من اللباس بلفظ : " ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين " ويجاب عنه بأن حمل المطلق على المقيد لازم وهو من جملة القائلين به . وأجاب الحنابلة بجوابات أخر لعله يأتي ذكر بعضها عند ذكر حديث ابن عباس .

                                                                                                                                            1831 - ( وعن ابن عمر قال : { بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد ، يعني مسجد ذي الحليفة } متفق عليه .

                                                                                                                                            وفي لفظ { : ما أهل إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره } . أخرجاه . وللبخاري { : أن [ ص: 362 ] ابن عمر كان إذا أراد الخروج إلى مكة ادهن بدهن ليس له رائحة طيب ، ثم يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلي ، ثم يركب ، فإذا استوت به راحلته قائمة أحرم ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل } ) .

                                                                                                                                            1832 - ( وعن أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر ، ثم ركب راحلته ، فلما علا على جبل البيداء أهل } . رواه أبو داود ) .

                                                                                                                                            1833 - ( وعن جابر { أن إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته } . رواه البخاري ، وقال : رواه أنس وابن عباس )

                                                                                                                                            1834 - ( وعن سعيد بن جبير قال : { قلت لابن عباس : عجبا لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلاله فقال : إني لأعلم الناس بذلك ، إنما كانت منه حجة واحدة ، فمن هنالك اختلفوا ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجا ، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه ، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه ، فسمع ذلك منه أقوام فحفظوا عنه ، ثم ركب ، فلما استقلت به ناقته أهل فأدرك ذلك منه أقوام فحفظوا عنه ، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالا فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل ، فقالوا : إنما أهل حين استقلت به ناقته ، ثم مضى ; فلما علا على شرف البيداء أهل ، فأدرك ذاك أقوام ، فقالوا : إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين علا على شرف البيداء ، وايم الله لقد أوجب في مصلاه وأهل حين استقلت به راحلته وأهل حين علا شرف البيداء } . رواه أحمد وأبو داود ، ولبقية الخمسة منه مختصرا : أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل في دبر الصلاة ) حديث أنس الذي عزاه المصنف إلى أبي داود أخرجه أيضا النسائي وسكت عنه أبو داود والمنذري ، ورجال إسناده رجال الصحيح إلا أشعث بن عبد الملك الحمراني وهو ثقة . وحديث ابن عباس الذي رواه عنه سعيد بن جبير في إسناده خصيف بن عبد الرحمن الحراني وهو ضعيف ومحمد بن إسحاق ولكنه صرح بالتحديث . وقد أخرجه الحاكم من طريق آخر عن عطاء عن ابن عباس . وأخرج أيضا ما أخرجه الخمسة من حديثه مختصرا

                                                                                                                                            قوله : ( بيداؤكم ) البيداء هذه فوق علمي ذي الحليفة لمن صعد من الوادي ، قاله أبو عبيد البكري [ ص: 363 ] وغيره . وكان ابن عمر إذا قيل له الإحرام من البيداء أنكر ذلك وقال : { البيداء التي تكذبون فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني بقولكم إنه أهل منها ، وإنما أهل من مسجد ذي الحليفة } وهو يشير إلى قول ابن عباس عند البخاري أنه صلى الله عليه وسلم ركب راحلته حتى استوت على البيداء أهل ، وإلى حديث أنس المذكور في الباب ، والتكذيب المذكور المراد به الإخبار عن الشيء على خلاف الواقع وإن لم يقع على وجه العمد قوله : ( ادهن بدهن ليس له رائحة طيبة ) فيه جواز الادهان بالأدهان التي ليست لها رائحة طيبة . وقد ثبت من حديث ابن عباس عند البخاري " أن النبي صلى الله عليه وسلم ادهن ولم ينه عن الدهن " قال ابن المنذر : أجمع العلماء على أن للمحرم أن يأكل الزيت والشحم وأن يستعمل ذلك في جميع بدنه رأسه ولحيته . وأجمعوا على أن الطيب لا يجوز استعماله في بدنه ، وفرقوا بين الطيب والزيت في هذا ، فقياس كون المحرم ممنوعا من استعماله الطيب في رأسه أن يباح له استعمال الزيت في رأسه ، وقد تقدم الكلام في الطيب . قوله : ( على حبل البيداء ) بالحاء المهملة : هو الرمل المستطيل وهو المراد بقوله في الرواية الأخرى : " على شرف البيداء " والشرف : المكان العالي قوله : ( فمن هناك اختلفوا . . . إلخ ) هذا الحديث يزول به الإشكال . ويجمع بين الروايات المختلفة بما فيه ، فيكون شروعه صلى الله عليه وسلم في الإهلال بعد الفراغ من صلاته بمسجد ذي الحليفة في مجلسه قبل أن يركب ، فنقل عنه من سمعه يهل هنالك أنه أهل بذلك المكان ، ثم أهل لما استقلت به راحلته ، فظن من سمع إهلاله عن ذلك أنه شرع فيه في ذلك الوقت لأنه لم يسمع إهلاله بالمسجد فقال : إنما أهل حين استقلت به راحلته ، ثم روى كذلك من سمعه يهل على شرف البيداء

                                                                                                                                            وهذا يدل على أن الأفضل لمن كان ميقاته ذا الحليفة أن يهل في مسجدها بعد فراغه من الصلاة . ويكرر الإهلال عند أن يركب على راحلته ، وعند أن يمر بشرف البيداء . قال في الفتح : وقد اتفق فقهاء الأمصار على جواز جميع ذلك ، وإنما الخلاف في الأفضل




                                                                                                                                            الخدمات العلمية