الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب التخيير بين التمتع والإفراد والقران وبيان أفضلها

                                                                                                                                            1838 - ( عن عائشة قالت : { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ، ومن أراد أن يهل بحج فليهل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل ، قالت : وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج وأهل به ناس معه وأهل معه ناس بالعمرة والحج ، وأهل ناس بعمرة ، وكنت فيمن أهل بعمرة } . متفق عليه ) .

                                                                                                                                            1839 - ( وعن عمران بن حصين قال : { نزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل قرآن يحرمه ولم ينه عنه حتى مات . } متفق عليه . ولأحمد ومسلم : { ونزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى ، يعني متعة الحج ، وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنها حتى مات } )

                                                                                                                                            1840 - ( وعن عبد الله بن شقيق : { أن عليا كان يأمر بالمتعة وعثمان ينهى عنها ، فقال عثمان كلمة ، قال علي : لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عثمان : أجل ، ولكنا كنا خائفين } . رواه أحمد ومسلم ) .

                                                                                                                                            1841 - ( وعن ابن عباس قال : { أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة وأهل أصحابه بالحج فلم يحل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من ساق الهدي من أصحابه وحل بقيتهم } . رواه أحمد ومسلم .

                                                                                                                                            وفي رواية قال : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك ، وأول من نهى عنها معاوية . رواه أحمد والترمذي )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الرواية الأخرى حسنها الترمذي قوله : ( فقال من أراد منكم أن يهل . . . إلخ ) فيه الإذن منه صلى الله عليه وسلم بالحج إفرادا وقرانا وتمتعا . والإفراد : هو الإهلال بالحج وحده والاعتمار بعد الفراغ من أعمال الحج لمن شاء ، ولا خلاف في جوازه . والقران : هو الإهلال بالحج والعمرة معا ، وهو أيضا متفق على جوازه أو الإهلال بالعمرة ، ثم يدخل عليها الحج أو [ ص: 366 ] عكسه وهذا مختلف فيه . والتمتع هو الاعتمار في أشهر الحج ثم التحلل من تلك العمرة والإهلال بالحج في تلك السنة ، ويطلق التمتع في عرف السلف على القران . قال ابن عبد البر : ومن التمتع أيضا القران ، ومن التمتع أيضا فسخ الحج إلى العمرة انتهى . وقد حكى النووي في شرح مسلم الإجماع على جواز الأنواع الثلاثة ، وتأول ما ورد من النهي عن التمتع عن بعض الصحابة قوله : ( { وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج } ) احتج به من قال : كان حجه صلى الله عليه وسلم مفردا . وأجيب بأنه لا يلزم من إهلاله بالحج أن لا يكون أدخل عليه العمرة واعلم أنه قد اختلف في حجه صلى الله عليه وسلم هل كان قرانا أو تمتعا أو إفرادا ، وقد اختلفت الأحاديث في ذلك ; فروي أنه حج قرانا من جهة جماعة من الصحابة : منهم ابن عمر عند الشيخين . وعنه عند مسلم وعائشة عندهما أيضا . وعنها عند أبي داود . وعنها عند مالك في الموطإ وجابر عند الترمذي وابن عباس عند أبي داود وعمر بن الخطاب عند البخاري وسيأتي والبراء بن عازب عند أبي داود وسيأتي ، وعلي عند النسائي وعنه عند الشيخين وسيأتي وعمران بن حصين عند مسلم وأبو قتادة عند الدارقطني . قال ابن القيم : وله طرق صحيحة . وسراقة بن مالك عند أحمد وسيأتي ، ورجال إسناده ثقات ، وأبو طلحة الأنصاري عند أحمد وابن ماجه ، وفي إسناده الحجاج بن أرطاة والهرماس بن زياد الباهلي عند أحمد أيضا وابن أبي أوفى عند البزار بإسناد صحيح . وأبو سعيد عند البزار . وجابر بن عبد الله عند أحمد وفيه الحجاج بن أرطاة . وأم سلمة عند أحمد أيضا . وحفصة عند الشيخين . وسعد بن أبي وقاص عند النسائي والترمذي وصححه وأنس عند الشيخين وسيأتي .

                                                                                                                                            وأما حجه تمتعا فروي عن عائشة وابن عمر عند الشيخين وسيأتي ، وعلي وعثمان عند مسلم وأحمد كما في الباب . وابن عباس عند أحمد والترمذي كما في الباب أيضا وسعد بن أبي وقاص كما سيأتي .

                                                                                                                                            وأما حجه إفرادا فروي عن عائشة كما في حديث الباب . وعنها عند البخاري كما سيأتي . وعن ابن عمر عند أحمد ومسلم كما سيأتي أيضا وابن عباس عند مسلم . وجابر عند ابن ماجه ، وعنه عند مسلم . وقد اختلفت الأنظار واضطربت الأقوال لاختلاف هذه الأحاديث ، فمن أهل العلم من جمع بين الروايات كالخطابي فقال : إن كلا أضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر به اتساعا ، ثم رجح أنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج ، وكذا قال عياض وزاد فقال : وأما إحرامه فقد تظافرت الروايات الصحيحة بأنه كان مفردا . وأما روايات من روى التمتع فمعناه أنه أمر به لأنه صرح بقوله " ولولا أن معي الهدي لأحللت " فصح أنه لم يتحلل . وأما رواية من روى القران فهو إخبار عن آخر أحواله لأنه أدخل العمرة على الحج لما جاء إلى الوادي ، وقيل : قل [ ص: 367 ] عمرة في حجة . قال الحافظ : وهذا الجمع هو المعتمد ، وقد سبق إليه قديما ابن المنذر ، وبينه ابن حزم في حجة الوداع بيانا شافيا ، ومهده المحب الطبري تمهيدا بالغا يطول ذكره . ومحصله أن كل من روى عنه الإفراد حمل على ما أهل به في أول الحال ، وكل من روى عنه التمتع أراد ما أمر به أصحابه ، وكل من روى عنه القران أراد ما استقر عليه الأمر ، وجمع شيخ الإسلام بن تيمية جمعا حسنا فقال ما حاصله : إن التمتع عند الصحابة يتناول القران فتحمل عليه رواية من روى أنه حج تمتعا وكل من روى الإفراد قد روى أنه حج صلى الله عليه وسلم تمتعا وقرانا ، فيتعين الحمل على القران وأنه أفرد أعمال الحج ثم فرغ منها وأتى بالعمرة . ومن أهل العلم من صار إلى التعارض فرجح نوعا وأجاب عن الأحاديث القاضية بما يخالفه ، وهي جوابات طويلة أكثرها متعسفة ، وأورد كل منهم لما اختاره مرجحات أقواها وأولاها مرجحات القران فإنه لا يقاومها شيء من مرجحات غيره . منها أن أحاديثه مشتملة على زيادة على من روى الإفراد وغيره ، والزيادة مقبولة إذا خرجت من مخرج صحيح فكيف إذا ثبتت من طرق كثيرة عن جمع من الصحابة . ومنها أن من روى الإفراد والتمتع اختلف عليه في ذلك لأنهم جميعا روي عنهم أنه صلى الله عليه وسلم حج قرانا . ومنها أن روايات القران لا تحتمل التأويل بخلاف روايات الإفراد والتمتع فإنها تحتمله كما تقدم . ومنها أن رواة القران أكثر كما تقدم . ومنها أن فيهم من أخبر عن سماعه لفظا صريحا ، وفيهم من أخبر عن إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه فعل ذلك ، وفيهم من أخبر عن أمر ربه بذلك

                                                                                                                                            ومنها أنه النسك الذي أمر به كل من ساق الهدي ، فلم يكن ليأمرهم به إذا ساقوا الهدي ، ثم يسوق هو الهدي ويخالفه

                                                                                                                                            .


                                                                                                                                            وقد ذكر صاحب الهدي مرجحات غير هذه ولكنها مرجحات باعتبار أفضلية القران على التمتع والإفراد ، لا باعتبار أنه صلى الله عليه وسلم حج قرانا ، وهو بحث آخر قد اختلفت فيه المذاهب اختلافا كثيرا ، فذهب جمع من الصحابة والتابعين وأبو حنيفة وإسحاق ورجحه جماعة من الشافعية منهم النووي والمزني وابن المنذر وأبو إسحاق المروزي وتقي الدين السبكي إلى أن القران أفضل . وذهب جمع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كمالك وأحمد والباقر والصادق والناصر وأحمد بن عيسى وإسماعيل بن جعفر الصادق وأخيه موسى والإمامية إلى أن التمتع أفضل . وذهب جماعة من الصحابة وجماعة ممن بعدهم وجماعة من الشافعية وغيرهم ، ومن أهل البيت الهادي والقاسم والإمام يحيى وغيرهم من متأخريهم إلى أن الإفراد أفضل . وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء أن الأنواع الثلاثة في الفضل سواء . قال في الفتح : وهو مقتضى تصرف ابن خزيمة في صحيحه . وقال أبو يوسف : القران والتمتع في الفضل سواء ، وهما أفضل من الإفراد . وعن أحمد : من ساق الهدي فالقران أفضل له ليوافق فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن لم يسق الهدي فالتمتع أفضل له ليوافق ما [ ص: 368 ] تمناه وأمر به أصحابه ، زاد بعض أتباعه : ومن أراد أن ينشئ لعمرته من بلد سفره فالإفراد أفضل له . قال : وهذا أعدل المذاهب وأشبهها بموافقة الأحاديث الصحيحة ، ولكن المشهور عن أحمد أن التمتع أفضل مطلقا . وقد احتج القائلون بأن القران أفضل بحجج : منها أن الله اختاره لنبيه . ومنها أن قوله صلى الله عليه وسلم : { دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة } يقتضي أنها قد صارت جزءا منه أو كالجزء الداخل فيه بحيث لا يفصل بينها وبينه ولا يكون ذلك إلا مع القران . ومنها أن النسك الذي اشتمل على سوق الهدي أفضل . واستدل من قال : بأن التمتع أفضل بما اتفق عليه من حديث جابر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة } قالوا : ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتمنى إلا الأفضل ، واستمراره في القران إنما كان لاضطرار السوق إليه وهذا هو الحق فإنه لا يظن أن نسكا أفضل من نسك اختاره صلى الله عليه وسلم لأفضل الخلق وخير القرون . وأما ما قيل من أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك تطييبا لقلوب أصحابه لحزنهم على فوات موافقته ففاسد ; لأن المقام مقام تشريع للعباد ، وهو لا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم أن يخبر بما يدل على أن ما فعلوه من التمتع أفضل مما استمر عليه من القران والأمر على خلاف ذلك ، وهل هذا إلا تغرير يتعالى عنه مقام النبوة

                                                                                                                                            وبالجملة لم يوجد في شيء من الأحاديث ما يدل على أن بعض الأنواع أفضل من بعض غير هذا الحديث ، فالتمسك به متعين ، ولا ينبغي أن يلتفت إلى غيره من المرجحات فإنها في مقابلته ضائعة . واحتج من قال بأن الإفراد أفضل أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أفردوا الحج وواظبوا على إفراده ، فلو لم يكن أفضل لم يواظبوا عليه ، وبأن الإفراد لا يجب فيه دم . قال النووي بالإجماع وذلك لكماله ، ويجب الدم في التمتع والقران ، وهو دم جبران لفوات الميقات وغيره فكان ما لا يحتاج إلى جبران أفضل ومنها أن الأمة أجمعت على جواز الإفراد من غير كراهة ; وكره عمر وعثمان وغيرهما التمتع وبعضهم القران . ويجاب عن هذا كله بأن الإفراد لو كان أفضل لفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تمنى فعله بعد أن صار ممنوعا بالسوق والكل ممنوع ، والسند ما سلف من أنه - صلى الله عليه وسلم - حج قرانا وأظهر أنه كان يود أن يكون حجه تمتعا ، وهذان البحثان : أعني تعيين ما حجه - صلى الله عليه وسلم - من الأنواع ، وبيان ما هو الأفضل منها من المضايق والمواطن البسط ، وفيما حررناه مع كونه في غاية الإيجاز ما يغني اللبيب .

                                                                                                                                            1842 - ( وعن حفصة أم المؤمنين قالت : { قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : ما شأن الناس حلوا [ ص: 369 ] ولم تحل من عمرتك ؟ قال : إني قلدت هديي ، ولبدت رأسي ، فلا أحل حتى أحل من الحج } رواه الجماعة إلا الترمذي )

                                                                                                                                            1843 - ( وعن غنيم بن قيس المازني قال : سألت سعد بن أبي وقاص عن المتعة في الحج ، فقال : فعلناها وهذا يومئذ كافر بالعروش ، يعني بيوت مكة ، يعني معاوية . رواه أحمد ومسلم ) .

                                                                                                                                            1844 - ( وعن الزهري عن سالم عن أبيه قال : { تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى ، فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ، وتمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج ، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ، ومنهم من لم يهد ; فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة قال للناس : من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة ، وليقصر وليحل ثم ليهل بالحج وليهد ، فمن لم يجد هديا فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله ، وطاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة فاستلم الركن أول شيء ، ثم خب ثلاثة أشواط من السبع ، ومشى أربعة أطواف ، ثم ركع حين قضى طوافا بالبيت عند المقام ركعتين ، ثم سلم فانصرف ، فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف ، ثم لم يتحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه ، وفعل مثل ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهدى فساق الهدي } . وعن عروة عن عائشة مثل حديث سالم عن أبيه . متفق عليه )

                                                                                                                                            قوله : ( ولم تحل ) في رواية للبخاري " ولم تحلل " بلامين وهو إظهار شاذ وفيه لغة معروفة قوله : ( لبدت ) بتشديد الموحدة : أي شعر رأسي ، وهو أن يجعل فيه شيء ملتصق ويؤخذ منه استحباب ذلك للمحرم قوله : ( فلا أحل من الحج ) يعني حتى يبلغ الهدي محله واستدل به على أن من اعتمر فساق هديا لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر . قوله : ( بالعروش ) جمع عرش يقال لمكة وبيوتها كما قال في القاموس قوله : ( تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . إلخ ) قال المهلب : معناه أمره بذلك لأنه كان ينكر على أنس قوله إنه قرن ، ويقول إنه كان مفردا . قوله : ( فأهل بالعمرة ) قال المهلب : معناه [ ص: 370 ] أمرهم بالتمتع وهو أن يهلوا بالعمرة أولا ويقدموها قبل الحج . قال : ولا بد من هذا التأويل لدفع التناقض عن ابن عمر

                                                                                                                                            وقال ابن المنير : إن حمل قوله تمتع على معنى ( أمر ) من أبعد التأويلات ، والاستشهاد عليه بقوله رجم ، وإنما أمر بالرجم من أوهن الاستشهادات ; لأن الرجم وظيفة الإمام ، والذي يتولاه إنما يتولاه نيابة عنه . وأما أعمال الحج من إفراد وقران وتمتع فإنه وظيفة كل أحد عن نفسه ثم أورد تأويلا آخر وهو أن الراوي عهد أن الناس لا يفعلون إلا كفعله لا سيما مع قوله : { خذوا عني مناسككم } فلما تحقق أن الناس تمتعوا ظن أنه - صلى الله عليه وسلم - تمتع فأطلق ذلك قال الحافظ : ولا يتعين هذا أيضا ، بل يحتمل أن يكون معنى قوله تمتع محمولا على مدلوله اللغوي : وهو الانتفاع بإسقاط عمل العمرة والخروج إلى ميقاتها وغيره . قال النووي : إن هذا هو المتعين . قوله : ( بالعمرة إلى الحج ) قال المهلب أيضا : أي أدخل العمرة على الحج . قوله : ( فإنه لا يحل من شيء حرم عليه ) تقدم بيانه . قوله : ( وليقصر ) قال النووي : معناه أنه بفعل الطواف والسعي والتقصير يصير حلالا ، وهذا دليل على أن الحلق والتقصير نسك وهو الصحيح ، وقيل استباحة محظور ، قال : وإنما أمره بالتقصير دون الحلق أفضل ليبقى له شعر يحلقه في الحج قوله : ( وليحل ) هو أمر معناه الخبر : أي قد صار حلالا فله فعل كل ما كان محظورا عليه في الإحرام ، ويحتمل أن يكون أمرا على الإباحة لفعل ما كان عليه حراما قبل الإحرام . قوله : ( ثم ليهل بالحج ) أي يحرم وقت خروجه إلى عرفة ، ولهذا أتى بثم الدالة على التراخي ، فلم يرد أنه يهل بالحج عقب إحلاله من العمرة قوله : ( وليهد ) أي هدي التمتع . قوله : ( فمن لم يجد . . . إلخ ) أي لم يجد الهدي بذلك المكان أو لم يجد ثمنه أو كان يجد هديا ولكن يمتنع صاحبه من بيعه أو يبيعه لغلاء ، فينتقل إلى الصوم كما هو نص القرآن ; والمراد بقوله تعالى : { في الحج } أي بعد الإحرام به

                                                                                                                                            قال النووي : هذا هو الأفضل . وإن صامها قبل الإهلال بالحج أجزأه على الصحيح . وأما قبل التحلل من العمرة فلا على الصحيح . وجوزه الثوري وأهل الرأي . قوله : ( ثم خب ) سيأتي الكلام عليه في الطواف ، ويأتي الكلام أيضا على صلاة الركعتين والسعي بين الصفا والمروة ونحر الهدي والإفاضة وسوق الهدي . وقد استدل بالأحاديث المذكورة على أن حجه - صلى الله عليه وسلم - كان تمتعا ، وقد تقدم الكلام على ذلك في أول الباب . قوله : ( من أهدى فساق الهدي ) الموصول فاعل . قوله : فعل : أي فعل من أهدى فساق الهدي مثل ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأغرب الكرماني فشرحه على أن فاعل فعل هو ابن عمر راوي الخبر ، وفصل في رواية أبي الوقت بين قوله : فعل وبين قوله : من أهدى بلفظ ( باب ) قال في الفتح : وهذا خطأ شنيع . وقال أبو الوليد : أمرنا أبو ذر أن نضرب على هذه الترجمة ، يعني قوله : من أهدى وساق الهدي وذلك لظنه بأنها ترجمة [ ص: 371 ] من البخاري فحكم عليها بالوهم .

                                                                                                                                            1845 - ( وعن القاسم عن عائشة : { أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج } . رواه الجماعة إلا البخاري ) .

                                                                                                                                            1846 - ( وعن نافع عن ابن عمر قال : { أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا } . رواه أحمد ومسلم . ولمسلم : { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل بالحج مفردا } ) .

                                                                                                                                            1847 - ( وعن بكر بن عبد الله المزني عن أنس قال : { سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي بالحج والعمرة جميعا يقول : لبيك عمرة وحجا } متفق عليه ) .

                                                                                                                                            1848 - ( وعن أنس أيضا قال : { خرجنا نصرخ بالحج ، فلما قدمنا مكة أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نجعلها عمرة وقال : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة ، ولكن سقت الهدي وقرنت بين الحج والعمرة } رواه أحمد ) .

                                                                                                                                            1849 - ( وعن عمر بن الخطاب قال : { سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بوادي العقيق يقول : أتاني الليلة آت من ربي فقال : صل في هذا الوادي المبارك ، وقل عمرة في حجة } رواه أحمد والبخاري وابن ماجه وأبو داود .

                                                                                                                                            وفي رواية للبخاري : " وقل عمرة وحجة " ) . قوله : ( أفرد الحج ) قد تقدم أن رواية الإفراد غير منافية لرواية القران ; لأن من روى القران ناقل للزيادة ، وغاية الأمر أنه يجمع بأنه - صلى الله عليه وسلم - أهل بالحج مفردا ثم أضاف إليه العمرة . وأما قول ابن عمر : " أهللنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج مفردا " فليس فيه ما ينافي قول من قال : إن حجه - صلى الله عليه وسلم - كان قرانا أو تمتعا ; لأنه أخبر عن إهلالهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يخبر عن إهلاله - صلى الله عليه وسلم - قوله : ( يقول لبيك عمرة وحجا ) هو من أدلة القائلين بأن حجه - صلى الله عليه وسلم - كان قرانا ، وقد رواه عن أنس جماعة من التابعين منهم : الحسن البصري وأبو قلابة وحميد بن هلال وحميد بن عبد الرحمن الطويل وقتادة ويحيى بن سعيد الأنصاري وثابت البناني وبكر بن عبد الله المزني وعبد العزيز بن صهيب وسليمان ويحيى بن أبي إسحاق [ ص: 372 ] وزيد بن أسلم ومصعب بن سليم وأبو قدامة عاصم بن حسين وسويد بن حجير الباهلي قوله : ( خرجنا نصرخ بالحج ) فيه حجة للجمهور القائلين أنه يستحب رفع الصوت بالتلبية .

                                                                                                                                            وقد أخرج مالك في الموطأ وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم من طريق خلاد بن السائب عن أبيه مرفوعا : { جاءني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي يرفعون أصواتهم بالإهلال } وروى ابن القاسم عن مالك أنه لا يرفع الصوت بالتلبية إلا عند المسجد الحرام ومسجد منى . قوله : ( لو استقبلت . . . إلخ ) هو متفق على مثل معناه من حديث جابر ، وبه استدل من قال بأن التمتع أفضل أنواع الحج ، وقد تقدم البحث عن ذلك

                                                                                                                                            قوله : ( أتاني الليلة آت ) هو جبريل كما في الفتح . قوله : ( فقال : - صلى الله عليه وسلم - في هذا الوادي المبارك ) هو وادي العقيق وهو بقرب العقيق بينه وبين المدينة أربعة أميال . وروى الزبير بن بكار في أخبار المدينة أن تبعا لما انحدر في مكان عند رجوعه من المدينة قال : هذا عقيق الأرض فسمي العقيق .

                                                                                                                                            قوله : ( وقل عمرة في حجة ) برفع عمرة ، في أكثر الروايات وبنصبها في بعضها بإضمار فعل : أي جعلتها عمرة ، وهو دليل على أن حجه - صلى الله عليه وسلم - كان قرانا . وأبعد من قال : إن معناه أنه يعتمر في تلك السنة بعد فراغ حجه . وظاهر حديث عمر هذا أن حجه - صلى الله عليه وسلم - القران كان بأمر من الله ، فكيف يقول - صلى الله عليه وسلم - : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة " فينظر في هذا ، فإن أجيب بأنه إنما قال ذلك تطييبا لخواطر أصحابه فقد تقدم أنه تغرير لا يليق نسبة مثله إلى الشارع

                                                                                                                                            1850 - ( وعن مروان بن الحكم قال : { شهدت عثمان وعليا وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما ; فلما رأى علي ذلك أهل بهما لبيك بعمرة وحجة . وقال : ما كنت لأدع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول أحد } . رواه البخاري والنسائي ) .

                                                                                                                                            1851 - ( وعن الصبي بن معبد قال : { كنت رجلا نصرانيا فأسلمت فأهللت بالحج والعمرة ، قال : فسمعني زيد بن صوحان ، وسلمان بن ربيعة وأنا أهل بهما ، فقالا : لهذا أضل من بعير أهله ، فكأنما حمل علي بكلمتيهما جبل ، فقدمت على عمر بن الخطاب فأخبرته ، فأقبل عليهما فلامهما وأقبل علي ، فقال : هديت لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم } . رواه أحمد وابن ماجه والنسائي ) .

                                                                                                                                            الحديث أخرج نحوه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري ، ورجال إسناده رجال [ ص: 373 ] الصحيح .

                                                                                                                                            قوله : ( وأن يجمع بينهما ) يحتمل أن يكون الواو عاطفة فيكون نهى عن التمتع والقران معا ، ويحتمل أن يكون عطفا تفسيريا وهو على ما تقدم أن السلف كانوا يطلقون على القران تمتعا فيكون المراد أن يجمع بينهما قرانا أو إيقاعا لهما في سنة واحدة بتقديم العمرة على الحج . وقد زاد مسلم " أن عثمان قال لعلي : دعنا عنك ، فقال علي : إني لا أستطيع أن أدعك " وقد تقدم في أول الباب أن عثمان قال : " أجل ، ولكنا كنا خائفين " . قوله : ( عن الصبي ) هو بضم الصاد المهملة وفتح الموحدة بعدها تحتية . قال في التقريب : صبي بالتصغير : ابن معبد التغلبي بالمثناة والمعجمة وكسر اللام : ثقة مخضرم ، نزل الكوفة من الثانية .

                                                                                                                                            قوله : ( زيد بن صوحان ) بضم الصاد المهملة بعدها واو ساكنة ثم معجمة مخففة . قوله : ( فكأنما حمل علي بكلمتيهما جبل ) يعني أنه ثقل عليه ما سمعه منهما من ذلك اللفظ الغليظ .

                                                                                                                                            قوله : ( هديت لسنة نبيك ) هو من أدلة القائلين بتفضيل القران ، ولا يخفى أنه لا يصلح للاستدلال به على الأفضلية لأنه لا خلاف أن الثلاثة الأنواع ثابتة من سنته - صلى الله عليه وسلم - إما بالقول أو بالفعل ، ومجرد نسبة بعضها إلى السنة لا يدل على أنه أفضل من غيره مع كونها مشتركة في ذلك

                                                                                                                                            1852 - ( وعن سراقة بن مالك قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : { دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ، قال : وقرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع } . رواه أحمد ) .

                                                                                                                                            1853 - ( وعن البراء بن عازب قال : { لما قدم علي من اليمن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : وجدت فاطمة قد لبست ثيابا صبيغا وقد نضحت البيت بنضوح ، فقالت : ما لك ؟ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أصحابه فحلوا ، قال : قلت لها : إني أهللت بإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : كيف صنعت ؟ قال : قلت أهللت بإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإني قد سقت الهدي وقرنت ، فقال لي : انحر من البدن سبعا وستين أو ستا وستين ، وانسك لنفسك ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين ، وأمسك لي من كل بدنة منها بضعة } رواه أبو داود ) .

                                                                                                                                            حديث سراقة في إسناده داود بن يزيد الأودي وهو ضعيف . وقد أخرج نحوه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس وسيأتي في باب فسخ الحج

                                                                                                                                            وحديث البراء أخرجه [ ص: 374 ] أيضا النسائي ، وفي إسناده يونس بن إسحاق السبيعي ، وقد احتج به مسلم وأخرج له جماعة . وقال الإمام أحمد : حديثه فيه زيادة على حديث الناس . وقال البيهقي وكذا في هذه الرواية " وقرنت " وليس ذلك في حديث جابر حين وصف قدوم علي وإهلاله . وحديث جابر أصح سندا وأحسن سياقة ، ومع حديث جابر حديث أنس ، يريد أن حديث أنس ذكر فيه قدوم علي وذكر إهلاله وليس فيه قرنت ، هو في الصحيحين . قوله : ( دخلت العمرة في الحج ) قد تقدم أنه يدل على أفضلية القران لمصير العمرة جزءا من الحج أو كالجزء . قوله : ( صبيغا ) فعيل هاهنا بمعنى مفعول : أي مصبوغات . قوله : ( وقد نضحت ) بفتح النون والضاد المعجمة والحاء المهملة .

                                                                                                                                            قوله : ( بنضوح ) بفتح النون وضم الضاد المعجمة بعد الواو حاء مهملة : وهي ضرب من الطيب قوله : ( فقالت ) ههنا كلام محذوف تقديره [ فأنكر عليها صبغ ثيابها ونضح بيتها بالطيب ] ، فقالت . . . إلخ . قوله : ( قد أمر أصحابه فحلوا ) في رواية مسلم " فوجد فاطمة ممن حلت ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر ذلك عليها ، قالت : أمرني أبي بهذا " . قوله : ( أو ستا وستين ) هكذا في سنن أبي داود ، وكان جملة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة كما في صحيح مسلم .

                                                                                                                                            وفي لفظ لمسلم " فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر " . قال النووي والقرطبي : ونقله القاضي عن جميع الرواة : إن هذا هو الصواب لا ما وقع في رواية أبي داود . قوله : ( بضعة ) بفتح الباء الموحدة : وهي القطعة من اللحم .

                                                                                                                                            وفي صحيح مسلم " ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر وطبخت ، فأكل هو وعلي من لحمها وشربا من مرقها " واستدل بحديث سراقة والبراء من قال : إن حجه - صلى الله عليه وسلم - كان قرانا . وقد تقدم الكلام على ذلك ، واستدل بحديث علي على صحة الإحرام معلقا ، وعلى جواز الاشتراك في الهدي وسيأتي الكلام على ذلك .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية