الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ما جاء في تقديم النحر والحلق والرمي والإفاضة بعضها على بعض 2025 - ( عن عبد الله بن عمرو قال : { سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل يوم [ ص: 87 ] النحر وهو واقف عند الجمرة فقال : يا رسول الله : حلقت قبل أن أرمي ؟ قال : ارم ولا حرج ، وأتاه آخر ، فقال : إني ذبحت قبل أن أرمي ؟ قال : ارم ولا حرج وأتى آخر فقال : إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي ؟ فقال : ارم ولا حرج . وفي رواية عنه : أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر ، فقام إليه رجل فقال : كنت أحسب أن كذا قبل كذا ثم قام آخر فقال : كنت أحسب أن كذا قبل كذا حلقت قبل أن أنحر ، نحرت قبل أن أرمي ، وأشباه ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : افعل ولا حرج لهن كلهن فما سئل يومئذ عن شيء إلا قال : افعل ولا حرج . } متفق عليهما . ولمسلم في رواية : { فما سمعته يسأل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها ، إلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : افعلوا ولا حرج } )

                                                                                                                                            2026 - ( وعن علي عليه السلام قال : { جاء رجل فقال : يا رسول الله حلقت قبل أن أنحر ؟ قال : انحر ولا حرج ثم أتاه آخر فقال : يا رسول الله : إني أفضت قبل أن أحلق قال : احلق أو قصر ولا حرج } رواه أحمد وفي لفظ : قال : { إني أفضت قبل أن أحلق قال : احلق أو قصر ولا حرج ، قال : وجاء آخر فقال : يا رسول الله : إني ذبحت قبل أن أرمي ؟ قال : ارم ولا حرج } رواه الترمذي وصححه ) .

                                                                                                                                            2027 - ( وعن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير : فقال : لا حرج . } متفق عليه ، وفي رواية : { سأله رجل فقال : حلقت قبل أن أذبح قال : اذبح ولا حرج ، وقال : رميت بعدما أمسيت ؟ فقال : افعل ولا حرج . } رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه والنسائي ، وفي رواية قال : { قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : زرت قبل أن أرمي ؟ قال : لا حرج ، قال : حلقت قبل أن أذبح ؟ قال : لا حرج ، قال : ذبحت قبل أن أرمي ؟ قال : لا حرج } رواه البخاري )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( يوم النحر ) في رواية للبخاري أن ذلك كان في حجة الوداع وفي أخرى [ ص: 88 ] له يخطب يوم النحر كما في الباب وفي أخرى له أيضا على راحلته . قال القاضي عياض : جمع بعضهم بين هذه الروايات بأنه موقف واحد على أن معنى خطب أنه علم الناس لا أنها خطبة من خطب الحج المشروعة . قال : ويحتمل أن يكون ذلك في موطنين : أحدهما : على راحلته عند الجمرة ولم يقل في هذا خطب ، والثاني : يوم النحر بعد صلاة الظهر وذلك وقت الخطبة المشروعة من خطب الحج يعلم الإمام فيها الناس ما بقي عليهم من مناسكهم وصوب النووي هذا الاحتمال الثاني فإن قيل : لا منافاة بين هذا الذي صوبه وبين ما قبله فإنه ليس في شيء من طرق الأحاديث بيان الوقت الذي خطب فيه الناس . فيجاب بأن في رواية حديث ابن عباس التي ذكرها المصنف رميت بعدما أمسيت وهي تدل على أن هذه القصة كانت بعد الزوال ; لأن المساء إنما يطلق على ما بعد الزوال وكأن السائل علم أن السنة للحاج أن يرمي الجمرة أول ما يقدم ضحى فلما أخرها إلى بعد الزوال سأل عن ذلك .

                                                                                                                                            والحاصل أنه قد اجتمع من الروايات أن ذلك كان في حجة الوداع يوم النحر بعد الزوال عند الجمرة والرجل المذكور في هذه الأحاديث قال الحافظ في الفتح : لم نقف بعد البحث الشديد على اسم أحد ممن سأل في هذه القصة . قوله : ( حلقت قبل أن أرمي ) في هذه الرواية قدم السؤال عن الحلق قبل الرمي ، وفي الرواية الثانية قدم السؤال عن الحلق قبل النحر وكذلك في حديث علي عليه السلام وفي الرواية الأخرى منه قدم الإفاضة قبل الحلق ، وفي الرواية الثالثة منه قدم الذبح قبل الرمي وفي رواية ابن عباس قدم الحلق قبل الذبح وفي الرواية الأخرى منه قدم الزيارة قبل الرمي

                                                                                                                                            والأحاديث المذكورة في الباب تدل على جواز تقديم بعض الأمور المذكورة فيها على بعض وهي الرمي والحلق والتقصير والنحر وطواف الإفاضة وهو إجماع كما قال ابن قدامة في المغني قال في الفتح : إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع قال القرطبي : روي عن ابن عباس ولم يثبت عنه أن من قدم شيئا على شيء فعليه دم ، وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والحسن والنخعي وأصحاب الرأي .

                                                                                                                                            وتعقبه الحافظ بأن نسبة ذلك إلى النخعي وأصحاب الرأي فيها نظر وقال : إنهم لا يقولون بذلك إلا في بعض المواضع وإنما أوجبوا الدم ; لأن العلماء قد أجمعوا على أنها مترتبة أولها : رمي جمرة العقبة ، ثم نحر الهدي أو ذبحه ، ثم الحلق أو التقصير ثم طواف الإفاضة ولم يخالف في ذلك أحد إلا ابن جهم المالكي استثنى القارن فقال : لا يحلق حتى يطوف ، ورد عليه النووي بالإجماع فالمراد بإيجابهم الدم على من قدم شيئا على شيء يعنون من الأشياء المذكورة في هذا الترتيب المجمع عليه بأن فعل ما يخالفه .

                                                                                                                                            وقد روي إيجاب الدم عن الهادي والقاسم وذهب جمهور العلماء من الفقهاء وأصحاب الحديث [ ص: 89 ] إلى الجواز وعدم وجوب الدم قالوا ; لأن قوله صلى الله عليه وسلم ( ولا حرج ) يقتضي رفع الإثم والفدية معا ; لأن المراد بنفي الحرج نفي الضيق ، وإيجاب أحدهما فيه ضيق وأيضا لو كان الدم واجبا لبينه صلى الله عليه وسلم ; لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وبهذا يندفع ما قاله الطحاوي من أن الرخصة مختصة بمن كان جاهلا أو ناسيا لا من كان عامدا فعليه الفدية .

                                                                                                                                            قال الطبري : لم يسقط النبي صلى الله عليه وسلم الحرج إلا وقد أجزأ الفعل إذ لو لم يجزئ لأمره بالإعادة ; لأن الجهل والنسيان لا يضيعان غير إثم الحكم الذي يلزمه في الحج كما لو ترك الرمي ونحوه فإنه لا يأثم بتركه ناسيا أو جاهلا لكن يجب عليه الإعادة . قال : والعجب ممن يحمل قوله ولا حرج على نفي الإثم فقط ثم يخص ذلك ببعض الأمور دون بعض فإن كان الترتيب واجبا يجب بتركه دم فليكن في الجميع وإلا فما وجه تخصيص بعض دون بعض من تعميم الشارع الجميع بنفي الحرج انتهى ، وذهب بعضهم إلى تخصيص الرخصة بالناسي والجاهل دون العامد واستدل على ذلك بقوله في حديث ابن عمرو : فما سمعته يومئذ يسأل عن أمر ينسى أو يجهل . . . إلخ وبقوله في رواية للشيخين من حديثه : { أن رجلا قال له صلى الله عليه وسلم : لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي فقال : ارم ولا حرج } .

                                                                                                                                            وذهب أحمد إلى التخصيص المذكور كما حكى ذلك عنه الأثرم وقد قوى ذلك ابن دقيق العيد فقال : ما قاله أحمد قوي من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج بقوله : { خذوا عني مناسككم } وهذه الأحاديث المرخصة في تقديم ما وقع عنه تأخيره قد قرنت بقول السائل : لم أشعر فيختص هذا الحكم بهذه الحالة وتبقى صورة العمد على أصل وجوب الاتباع في الحج .

                                                                                                                                            وأيضا الحكم إذا رتب على وصف يمكن أن يكون معتبرا لم يجز إطراحه ولا شك أن عدم الشعور مناسب لعدم المؤاخذة وقد علق به الحكم فلا يجوز إطراحه بإلحاق العمد به إذ لا يساويه .

                                                                                                                                            وأما التمسك بقول الراوي : فما سئل عن شيء . . . إلخ لإشعاره بأن الترتيب مطلقا غير مراعى فجوابه أن هذا الإخبار من الراوي يتعلق بما وقع السؤال عنه وهو مطلق بالنسبة إلى حال السائل والمطلق لا يدل على أحد الخاصين بعينه فلا يبقى حجة في حال العمد كذا في الفتح . ولا يخفاك أن السؤال له صلى الله عليه وسلم وقع من جماعة كما في حديث أسامة بن شريك عند الطحاوي وغيره كان الأعراب يسألونه ولفظ حديثه عند أبي داود : قال { خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجا فكان الناس يأتونه فمن قائل يا رسول الله : سعيت قبل أن أطوف أو قدمت شيئا فكان يقول : لا حرج لا حرج } .

                                                                                                                                            ويدل على تعدد السائل قول ابن عمرو في حديثه المذكور في الباب : وأتاه آخر فقال : إني أفضت . . . إلخ .

                                                                                                                                            وقول علي عليه السلام في حديثه المذكور : وأتاه آخر كذلك ، قوله : ( وجاء آخر ) وتعليق سؤال بعضهم بعدم الشعور لا يستلزم سؤال غيره به حتى يقال : [ ص: 90 ] إنه يختص الحكم بحالة عدم الشعور ولا يجوز إطراحها بإلحاق العمد بها ، ولهذا يعلم أن التعويل في التخصيص على وصف عدم الشعور المذكور في سؤال بعض السائلين غير مفيد للمطلوب نعم إخبار ابن عمرو عن أعم العام وهو قوله : " فما سئل يومئذ عن شيء " مخصص بإخباره مرة أخرى عن أخص منه مطلقا وهو قوله : فما سمعته يومئذ يسأل عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل ولكن عند من جوز التخصيص بمثل هذا المفهوم قوله : ( رميت بعدما أمسيت ) فيه دليل على أن من رمى بعد دخول وقت المساء وهو الزوال صح رميه ولا حرج عليه في ذلك




                                                                                                                                            الخدمات العلمية