الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ما جاء في المصراة 2277 - ( عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تصروا الإبل والغنم ، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر } متفق عليه ، وللبخاري وأبي داود : { من اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر } ، وهو دليل على أن الصاع من التمر في مقابلة اللبن وأنه أخذ قسطا من الثمن وفي رواية : { إذا ما اشترى أحدكم لقحة مصراة أو شاة مصراة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إما هي وإلا فليردها وصاعا من تمر } رواه مسلم وهو دليل على أنه يمسك بغير أرش ، وفي رواية : { من اشترى مصراة فهو منها بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسكها ، وإن شاء ردها ومعها صاعا من تمر لا سمراء } رواه الجماعة إلا البخاري )

                                                                                                                                            2278 - ( وعن أبي عثمان النهدي قال : قال عبد الله : " من اشترى محفلة فردها فليرد معها صاعا " رواه البخاري والبرقاني على شرطه وزاد : من تمر )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( لا تصروا ) بضم أوله وفتح الصاد المهملة وضم الراء المشددة من صريت اللبن في الضرع إذا جمعته ، وظن بعضهم أنه من صررت ، فقيده بفتح أوله وضم ثانيه قال في الفتح : والأول أصح قال : لأنه لو كان من صررت لقيل : مصرورة أو مصررة لا مصراة ، على أنه قد سمع الأمران في كلام العرب ثم استدل على ذلك بشاهدين عربيين ثم قال : وضبطه بعضهم بضم أوله وفتح ثانيه بغير واو على البناء للمجهول ، والمشهور الأول ا هـ قال الشافعي : التصرية هي ربط أخلاف الشاة أو الناقة وترك حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر فيظن المشتري أن ذلك عادتها فيزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها . وأصل التصرية حبس الماء يقال منه : صريت الماء : إذا حبسته . قال أبو عبيدة وأكثر أهل اللغة : التصرية : حبس اللبن في الضرع حتى يجتمع وإنما اقتصر على ذكر الإبل والغنم دون البقر ; لأن غالب مواشيهم كانت من الإبل والغنم والحكم واحد خلافا لداود

                                                                                                                                            قوله : ( فمن ابتاعها بعد ذلك ) أي : اشتراها بعد التصرية قوله : ( بعد أن يحلبها ) ظاهره أن [ ص: 254 ] الخيار لا يثبت إلا بعد الحلب والجمهور على أنه إذا علم بالتصرية ثبت له الخيار على الفور ولو لم يحلب لكن لما كانت التصرية لا يعرف غالبها إلا بعد الحلب جعل قيدا في ثبوت الخيار قوله : ( إن رضيها أمسكها ) استدل بهذا على صحة بيع المصراة مع ثبوت الخيار قوله : ( وصاعا من تمر ) الواو عاطفة على الضمير في ردها ، ولكنه يعكر عليه أن الصاع مدفوع ابتداء لا مردود ويمكن أن يقال إنه مجاز عن فعل يشمل الأمرين نحو سلمها أو ادفعها كما في قول الشاعر :

                                                                                                                                            علفتها تبنا وماء باردا

                                                                                                                                            أي : ناولتها ويمكن أن يقدر فعل آخر يناسب المعطوف أي : ردها وسلم ، أو أعط صاعا من تمر كما قيل : إن التقدير في قول الشاعر المذكور : وسقيتها ماء باردا

                                                                                                                                            وقيل : يجوز أن تكون الواو بمعنى مع ، ولكنه يعكر عليه قول جمهور النحاة : إن شرط المفعول معه أن يكون فاعلا في المعنى نحو جئت أنا وزيدا وقمت أنا وزيدا ، نعم جعله مفعولا معه صحيح عند من قال بجواز مصاحبته للمفعول به وهم القليل ، وقد استدل بالتنصيص على الصاع من التمر على أنه لا يجوز رد اللبن ولو كان باقيا على صفته لم يتغير ولا يلزم البائع قبوله لذهاب طراوته واختلاطه بما تجدد عند المشتري قوله : ( لقحة ) هي الناقة الحلوب أو التي نتجت قوله : ( ثلاثة أيام ) فيه دليل على امتداد الخيار هذا المقدار ، فتقيد بهذه الرواية الروايات القاضية بأن الخيار بعد الحلب على الفور كما في قوله : " بعد أن يحلبها " وإلى هذا ذهب الشافعي والهادي والناصر وذهب بعض الشافعية إلى أن الخيار على الفور وحملوا رواية الثلاث على ما إذا لم يعلم أنها مصراة قبل الثلاث قالوا : وإنما وقع التنصيص عليها ; لأن الغالب أنه لا يعلم بالتصرية فيما دونها

                                                                                                                                            واختلفوا في ابتداء الثلاث فقيل : من وقت بيان التصرية ، وإليه ذهبت الحنابلة وقيل : من حين العقد ، وبه قال الشافعي وقيل : من وقت التفرق قال في الفتح : ويلزم عليه أن يكون الفور أوسع من الثلاث في بعض الصور ، وهو ما إذا تأخر ظهور التصريح إلى آخر الثلاث ، ويلزم عليه أن تحسب المدة قبل التمكن من الفسخ ، وأن يفوت المقصود من التوسيع بالمدة ا هـ قوله ( من تمر لا سمراء ) لفظ مسلم وأبي داود : { من طعام لا سمراء } وينبغي أن يحمل الطعام على التمر المذكور في هذه الرواية وفي غيرها من الروايات ثم لما كان المتبادر من لفظ الطعام : القمح ، نفاه بقوله ( لا سمراء ) ويشكل على هذا الجمع ما في رواية للبزار بلفظ : { صاع من بر لا سمراء } وأجيب عن ذلك بأنه يحتمل أن يكون على وجه الرواية بالمعنى لما ظن الراوي أن الطعام مساو للبر عبر عنه بالبر ; لأن المتبادر [ ص: 255 ] من الطعام البر كما سلف في الفطرة ويشكل على ذلك الجمع أيضا ما في مسند أحمد بإسناد صحيح كما قال الحافظ عن رجل من الصحابة بلفظ : { صاعا من طعام أو صاعا من تمر } فإن التخيير يقتضي المغايرة

                                                                                                                                            وأجاب عنه في الفتح باحتمال أن يكون شكا من الراوي والاحتمال قادح في الاستدلال ، فينبغي الرجوع إلى الروايات التي لم تختلف ويشكل أيضا ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر بلفظ : { ردها ورد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا } وأجاب عن ذلك الحافظ بأن إسناد الحديث ضعيف قال : وقال ابن قدامة : إنه متروك الظاهر بالاتفاق قوله : ( محفلة ) بضم الميم وفتح الحاء المهملة والفاء المشددة من التحفيل وهو التجميع قال أبو عبيدة : سميت بذلك لكون اللبن يكثر في ضرعها ، وكل شيء كثرته فقد حفلته . تقول : ضرع حافل : أي : عظيم واحتفل القوم إذا كثر جمعهم ، ومنه سمي المحفل . وقد أخذ بظاهر الحديث الجمهور قال في الفتح : وأفتى به ابن مسعود وأبو هريرة ولا مخالف لهما في الصحابة

                                                                                                                                            وقال به من التابعين ومن بعدهم من لا يحصى عدده ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتلب قليلا كان أو كثيرا ، ولا بين أن يكون التمر قوت تلك البلد أم لا وخالف في أصل المسألة أكثر الحنفية وفي فروعها آخرون أما الحنفية فقالوا : لا يرد بعيب التصرية ولا يجب رد الصاع من التمر وخالفهم زفر فقال بقول الجمهور ، إلا أنه قال : مخير بين صاع من التمر أو نصف صاع من بر . وكذا قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف في رواية إلا أنهما قالا : لا يتعين صاع التمر بل قيمته وفي رواية عن مالك وبعض الشافعية كذلك ، ولكن قالوا : يتعين قوت البلد قياسا على زكاة الفطر وحكى البغوي أنه لا خلاف في مذهب الشافعية أنهما لو تراضيا بغير التمر من قوت أو غيره كفى وأثبت ابن كج الخلاف في ذلك وحكى الماوردي وجهين فيما إذا عجز عن التمر هل يلزمه قيمته ببلده أو بأقرب البلاد التي فيها التمر إليه وبالثاني قالت الحنابلة ا هـ

                                                                                                                                            كلام الفتح والهادوية يقولون : إن الواجب رد اللبن إن كان باقيا وإن كان تالفا فمثله وإن لم يوجد المثل فالقيمة وقد اعتذر الحنفية عن حديث المصراة بأعذار بسطها صاحب فتح الباري وسنشير إلى ما ذكره باختصار ونزيد عليه ما لا يخلو عن فائدة العذر : الأول : الطعن في الحديث بكون راويه أبا هريرة قالوا : ولم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصحابة فلا يؤخذ بما يرويه إذا كان مخالفا للقياس الجلي ، وبطلان هذا العذر أوضح من أن يشتغل ببيان وجهه فإن أبا هريرة رضي الله عنه من أحفظ الصحابة وأكثرهم حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يكن أحفظهم على الإطلاق وأوسعهم رواية لاختصاصه بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالحفظ كما ثبت في الصحيحين وغيرهما في قصة بسطه لردائه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان بهذه المنزلة لا ينكر عليه تفرده بشيء [ ص: 256 ] من الأحكام الشرعية

                                                                                                                                            وقد اعتذر رضي الله عنه عن تفرده بكثير مما لا يشاركه فيه غيره بما ثبت عنه في الصحيح من قوله : إن أصحابي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا وأيضا لو سلم ما ادعوه من أنه ليس كغيره في الفقه لم يكن ذلك قادحا في الذي يتفرد به ; لأن كثيرا من الشريعة بل أكثرها وارد من غير طريق المشهورين بالفقه من الصحابة فطرح حديث أبي هريرة يستلزم طرح شطر الدين ، على أن أبا هريرة لم ينفرد برواية هذا الحكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل رواه معه ابن عمر كما أخرج ذلك من حديثه أبو داود والطبراني وأنس ، كما أخرج ذلك من حديثه أبو يعلى وعمرو بن عوف المزني ، كما أخرج ذلك عنه البيهقي ورجل من الصحابة لم يسم ، كما أخرجه أحمد بإسناد صحيح وابن مسعود كما أخرجه الإسماعيلي وإن كان قد خالفه الأكثر ، ورووه موقوفا عليه كما فعله البخاري وغيره وتبعهم المصنف ، ولكن مخالفة ابن مسعود للقياس الجلي مشعرة بثبوت حديث أبي هريرة

                                                                                                                                            قال ابن عبد البر ونعم ما قال : إن هذا الحديث مجمع على صحته وثبوته من جهة النقل ، واعتل من لم يأخذ به بأشياء لا حقيقة لها . العذر الثاني من أعذار الحنفية الاضطراب في متن الحديث قالوا : لذكر التمر فيه تارة والقمح أخرى واللبن أخرى ، واعتبار الصاع تارة والمثل أو المثلين أخرى وأجيب بأن الطرق الصحيحة لا اختلاف فيها والضعيف لا يعل به الصحيح . العذر الثالث : أنه معارض لعموم قوله تعالى: { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } وأجيب بأنه من ضمان المتلفات لا العقوبات ، ولو سلم دخوله تحت العموم ، فالصاع مثل ; لأنه عوض المتلف وجعله مخصوصا بالتمر دفعا للشجار ، ولو سلم عدم صدق المثل عليه فعموم الآية مخصص بهذا الحديث أما على مذهب الجمهور فظاهر وأما على مذهب غيرهم فلأنه مشهور ، وهو صالح لتخصيص العمومات القرآنية . العذر الرابع : أن الحديث منسوخ وأجيب بأن النسخ لا يثبت بمجرد الاحتمال ، ولو كفى ذلك لرد من شاء ما شاء واختلفوا في تعيين الناسخ فقال بعضهم : هو حديث ابن عمر عند ابن ماجه في النهي عن بيع الدين بالدين ، وذلك ; لأن لبن المصراة قد صار دينا في ذمة المشتري ، فإذا ألزم بصاع من تمر صار دينا بدين كذا قال الطحاوي

                                                                                                                                            وتعقب بأن الحديث ضعيف باتفاق المحدثين ولو سلمت صلاحيته فكون ما نحن فيه من بيع الدين بالدين ممنوع ; لأنه يرد الصاع مع المصراة حاضرا إلا نسيئة من غير فرق بين أن يكون اللبن موجودا أو غير موجود ، ولو سلم أنه من بيع الدين بالدين فحديث الباب مخصص لعموم ذلك النهي ; لأنه أخص منه مطلقا وقال بعضهم : إن ناسخه حديث { الخراج بالضمان } وقد تقدم وذلك ; لأن اللبن فضلة من فضلات الشاة ولو تلفت لكانت من ضمان المشتري [ ص: 257 ] فتكون فضلاتها له

                                                                                                                                            وأجيب بأن المغروم هو ما كان فيها قبل البيع لا الحادث وأيضا حديث الخراج بالضمان بعد تسليم شموله لمحل النزاع عام مخصوص بحديث الباب فكيف يكون ناسخا ؟ وأيضا لم ينقل تأخره والنسخ لا يتم بدون ذلك ، ثم لو سلمنا مع عدم العلم بالتاريخ جواز المصير إلى التعارض ، وعدم لزوم بناء العام على الخاص لكان حديث الباب أرجح لكونه في الصحيحين وغيرهما ولتأيده بما ورد في معناه عن غير واحد من الصحابة . وقال بعضهم : ناسخه الأحاديث الواردة في رفع العقوبة بالمال هكذا قال عيسى بن أبان وتعقبه الطحاوي بأن التصرية إنما وجدت من البائع ، فلو كان ذلك من الباب لكانت العقوبة له ، والعقوبة في حديث المصراة للمشتري فافترقا ، وأيضا عموم الأحاديث القاضية بمنع العقوبة بالمال على فرض ثبوتها مخصوصة بحديث المصراة وقد قدمنا البحث في التأديب بالمال مبسوطا في كتاب الزكاة

                                                                                                                                            وقال بعضهم : ناسخه حديث { البيعان بالخيار ما لم يفترقا } وقد تقدم ، وبذلك أجاب محمد بن شجاع ووجه الدلالة أن الفرقة قاطعة للخيار من غير فرق بين المصراة وغيرها وأجيب بأن الحنفية لا يثبتون خيار المجلس كما سلف فكيف يحتجون بالحديث المثبت له وأيضا بعد تسليم صحة احتجاجهم به هو مخصص بحديث الباب ، وأيضا قد أثبتوا خيار العيب بعد التفرق وما هو جوابهم فهو جوابنا . العذر الخامس : أن الخبر من الآحاد وهي لا تفيد إلا الظن وهو لا يعمل به إذا خالف قياس الأصول ، وقد تقرر أن المثلي يضمن بمثله ، والقيمي بقيمته من أحد النقدين ، فكيف يضمن بالتمر على الخصوص ؟ وأجيب بأن التوقف في خبر الواحد إنما هو إذا كان مخالفا للأصول لا لقياس الأصول ، والأصول : الكتاب والسنة ، والإجماع والقياس ، والأولان هما الأصل ، والآخران مردودان إليهما ، فكيف يرد الأصل بالفرع ؟ ولو سلم أن الآحادي يتوقف فيه على الوجه الذي زعموا فلا أقل لهذا الحديث الصحيح من صلاحيته تخصيص ذلك القياس المدعى

                                                                                                                                            وقد أجيب عن هذا العذر بأجوبة غير ما ذكر ، ولكن أمثلها ما ذكرناه ومن جملة ما خالف فيه هذا الحديث القياس عندهم أن الأصول تقتضي أن يكون الضمان بقدر التالف وهو مختلف وقد قدر هاهنا بمقدار معين وهو الصاع

                                                                                                                                            وأجيب بمنع التعميم في جميع المضمونات فإن الموضحة أرشها مقدر مع اختلافها بالكبر والصغر ، وكذلك كثير من الجنايات والغرة مقدرة في الجنين مع اختلافه والحكمة في تقدير الضمان هاهنا بمقدار واحد لقطع التشاجر لما كان قد اختلط اللبن الحادث بعد العقد باللبن الموجود قبله ، فلا يعرف مقداره حتى يسلم المشتري نظيره والحكمة في التقدير بالتمر أنه أقرب الأشياء إلى اللبن ; لأنه كان قوتهم إذ ذاك كالتمر ومن جملة ما خالف به الحديث القياس عندهم أنه جعل الخيار فيه ثلاثا ، مع أن خيار العيب [ ص: 258 ] لا يقدر بالثلاث ، وكذلك خيار الرؤية والمجلس

                                                                                                                                            وأجيب بأنه حكم المصراة انفرد بأصله عن مماثله فلا يستغرب أن ينفرد بوصف يخالف غيره ، وذلك لأن هذه المدة هي التي يتبين بها لبن الغرر ، بخلاف خيار الرؤية والعيب والمجلس فلا يحتاج إلى مدة ومن جملة ما خالف به القياس عندهم أنه يلزم من الأخذ به الجمع بين العوض والمعوض فيما إذا كان قيمة الشاة صاعا من تمر فإنها ترجع إليه مع الصاع الذي هو مقدار ثمنها وأجيب بأن التمر عوض اللبن لا عوض الشاة فلا يلزم ما ذكر ومن جملة ما خالف به القياس عندهم أنه إذا استرد مع الشاة صاعا ، وكان ثمن الشاة صاعا كان قد باع شاة وصاعا بصاع فيلزم الربا وأجيب بأن الربا إنما يعتبر في العقود لا في الفسوخ ، بدليل أنهما لو تبايعا ذهبا بفضة لم يجز أن يتفرقا قبل القبض ولو تقايلا في هذا العقد بعينه جاز التفرق قبل القبض

                                                                                                                                            ومن جملة المخالفة أنه يلزم من الأخذ به ضمان الأعيان مع بقائها فيما إذا كان اللبن موجودا وأجيب بأنه تعذر رده لاختلاطه باللبن الحادث وتعذر تمييزه فأشبه الآبق بعد الغصب فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه لتعذر رده ومنها أنه يلزم من الأخذ به إثبات الرد بغير عيب ولا شرط وأجيب بأن أسباب الرد لا تنحصر في الأمرين المذكورين بل له أسباب كثيرة ، منها الرد بالتدليس ، وقد أثبت به الشارع الرد في الركبان إذا تلقفوا كما سلف ولا يخفى على منصف أن هذه القواعد التي جعلوا هذا الحديث مخالفا لها لو سلم أنها قد قامت عليها الأدلة لم يقصر الحديث عن الصلاحية لتخصيصها ، فيا لله العجب من قوم يبالغون في المحاماة عن مذاهب أسلافهم وإيثارها على السنة المطهرة الصريحة الصحيحة إلى هذا الحد الذي يسر به إبليس وينفق في حصول مثل هذه القضية - التي قل طمعه في مثلها لا سيما من علماء الإسلام - النفس والنفيس ، وهكذا فلتكن ثمرات التمذهبات تقليد الرجال في مسائل الحرام والحلال

                                                                                                                                            العذر السادس : أن الحديث محمول على صورة مخصوصة وهي ما إذا اشترى شاة بشرط أنها تحلب مثلا خمسة أرطال وشرط فيها الخيار فالشرط فاسد ، فإن اتفقا على إسقاطه في مدة الخيار صح العقد ، وإن لم يتفقا بطل ، ووجب رد الصاع من التمر ; لأنه كان قيمة اللبن يومئذ وأجيب بأن الحديث معلق بالتصرية ، وما ذكروه يقتضي تعليقه بفساد الشرط سواء وجدت تصرية أم لا فهو تأويل متعسف وأيضا لو سلم أن ما ذكروه من جملة صور الحديث ، فالقصر على صورة معينة هي فرد من أفراد الدليل لا بد من إقامة دليل عليه قال في الفتح : واختلف القائلون بالحديث في أشياء منها لو كان عالما بالتصرية هل يثبت له الخيار ؟ فيه وجه للشافعية قال : ومنها لو صار لبن المصراة عادة واستمر على كثرته هل له الرد ؟ فيه وجه لهم أيضا خلافا للحنابلة في المسألتين

                                                                                                                                            ومنها لو تصرت بنفسها أو صراها المالك [ ص: 259 ] لنفسه ثم بدا له فباعها ، فهل يثبت ذلك الحكم ؟ فيه خلاف ، فمن نظر إلى المعنى أثبته ; لأن العيب يثبت الخيار ولا يشترط فيه تدليس ، ومن نظر إلى أن حكم التصرية خارج عن القياس خصه بمورده وهو حالة العمد ، فإن النهي إنما يتناولها فقط ومنها لو كان الضرع مملوءا لحما فظنه المشتري لبنا فاشتراها على ذلك ثم ظهر له أنه لحم هل يثبت له الخيار ؟ فيه وجهان حكاهما بعض المالكية

                                                                                                                                            ومنها لو اشترى غير مصراة ثم اطلع على عيب بها بعد حلبها ، فقد نص الشافعي على جواز الرد مجانا ; لأنه قليل غير معتنى بجمعه وقيل : يرد بدل اللبن كالمصراة وقال البغوي : يرد صاعا من تمر ا هـ والظاهر عدم ثبوت الخيار مع علم المشتري بالتصرية لانتفاء الغرر الذي هو السبب للخيار وأما كون سبب الغرر حاصلا من جهة البائع فيمكن أن يكون معتبرا لأن حكمه صلى الله عليه وسلم بثبوت الخيار بعد النهي عن التصرية مشعر بذلك وأيضا المصراة المذكورة في الحديث اسم مفعول ، وهو يدل على أن التصرية وقعت عليها من جهة الغير ، لأن اسم المفعول هو لمن وقع عليه فعل الفاعل ، ويمكن أن لا يكون معتبرا ; لأن تصري الدابة من غير قصد ، وكون ضرعها ممتلئا لحما يحصل به من الغرر ما يحصل بالتصرية عن قصد فينظر قال ابن عبد البر : هذا الحديث أصل في النهي عن الغش وأصل في ثبوت الخيار لمن دلس عليه بعيب وأصل في أنه لا يفسد أصل البيع وأصل في أن مدة الخيار ثلاثة أيام وأصل في تحريم التصرية وثبوت الخيار بها .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية