الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب التعديل بين الأولاد في العطية والنهي أن يرجع أحد في عطيته إلا الوالد [ ص: 10 ] عن النعمان بن بشير قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : { اعدلوا بين أبنائكم ، اعدلوا بين أبنائكم ، اعدلوا بين أبنائكم } رواه أحمد وأبو داود والنسائي )

                                                                                                                                            2481 - ( وعن جابر قال : { قالت امرأة بشير : انحل ابني غلاما وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلامي ، فقال : له إخوة ؟ قال : نعم ، قال : فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته ؟ قال : لا ، قال : فليس يصلح هذا ، وإني لا أشهد إلا على حق } رواه أحمد ومسلم وأبو داود ورواه أبو داود من حديث النعمان بن بشير وقال فيه : { لا تشهدني على جور ، إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم } )

                                                                                                                                            2482 - ( وعن النعمان بن بشير : { أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكل ولدك نحلته مثل هذا ؟ فقال : لا ، فقال : فأرجعه } متفق عليه ولفظ مسلم قال : { تصدق علي أبي ببعض ماله ، فقالت أمي عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق أبي إليه يشهده على صدقتي ، فقال رسول الله : أفعلت هذا بولدك كلهم ؟ قال : لا ، فقال : اتقوا الله واعدلوا في أولادكم ، فرجع أبي في تلك الصدقة } وللبخاري مثله لكن ذكره بلفظ العطية لا بلفظ : الصدقة )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث النعمان بن بشير الأول سكت عنه أبو داود والمنذري ، ورجال إسناده ثقات إلا المفضل بن المهلب بن أبي صفرة وهو صدوق وفي الباب عن ابن عباس عند الطبراني والبيهقي وسعيد بن منصور بلفظ { سووا بين أولادكم في العطية ، ولو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء } وفي إسناده سعيد بن يوسف وهو ضعيف وذكر ابن عدي في الكامل أنه لم ير له أنكر من هذا ، وقد حسن الحافظ في الفتح إسناده

                                                                                                                                            قوله : ( اعدلوا بين أولادكم ) تمسك به من أوجب التسوية بين الأولاد في العطية ، وبه صرح البخاري وهو قول طاوس والثوري وأحمد وإسحاق وبعض المالكية قال في الفتح : والمشهور عن هؤلاء [ ص: 11 ] أنها باطلة وعن أحمد تصح ويجب أن يرجع عنه ويجوز التفاضل إن كان له سبب كأن يحتاج الولد لزمانته أو دينه أو نحو ذلك دون الباقين وقال أبو يوسف : تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الإضرار وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبة ، فإن فضل بعضا صح وكره ، وحمل الأمر على الندب ، وكذلك حملوا النهي الثابت في رواية لمسلم بلفظ : { أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء ؟ قال : بلى ، قال : فلا إذن } على التنزيه وأجابوا عن حديث النعمان بأجوبة عشرة ذكرها في فتح الباري وسنوردها ههنا مختصرة مع زيادات مفيدة ، فقال : أحدها : أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده ، حكاه ابن عبد البر

                                                                                                                                            وتعقب بأن كثيرا من طرق الحديث مصرحة بالبعضية كما في حديث الباب " أن الموهوب كان غلاما " وكما في لفظ مسلم المذكور قال : تصدق علي أبي ببعض ماله الجواب الثاني : أن العطية المذكورة لم تنجز ، وإنما جاء بشير يستشير النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأشار عليه بأن لا يفعل فترك ، حكاه الطبري ويجاب عنه بأن أمره صلى الله عليه وسلم له بالارتجاع يشعر بالتنجيز وكذلك قول عمرة : " لا أرضى حتى تشهد . . . إلخ "

                                                                                                                                            الجواب الثالث : أن النعمان كان كبيرا ولم يكن قبض الموهوب فجاز لأبيه الرجوع ، ذكره الطحاوي قال الحافظ : وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث خصوصا قوله : " أرجعه " فإنه يدل على تقدم وقوع القبض والذي تظافرت عليه الروايات أنه كان صغيرا وكان أبوه قابضا له لصغره ، فأمره برد العطية المذكورة بعد ما كانت في حكم المقبوض الرابع : أن قوله : " أرجعه " دليل الصحة ، ولو لم تصح الهبة لم يصح الرجوع ، وإنما أمره بالرجوع لأن للوالد أن يرجع فيما وهب لولده ، وإن كان الأفضل خلاف ذلك ، لكن استحباب التسوية رجح على ذلك ، فلذلك أمره به

                                                                                                                                            قال في الفتح : وفي الاحتجاج بذلك نظر ، والذي يظهر أن معنى قوله : " أرجعه " أي لا تمض الهبة المذكورة ، ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة . الخامس أن قوله " أشهد على هذا غيري " إذن بالإشهاد على ذلك ، وإنما امتنع من ذلك لكونه الإمام ، وكأنه قال : لا أشهد لأن الإمام ليس من شأنه أن يشهد وإنما من شأنه أن يحكم ، حكاه الطحاوي وارتضاه ابن القصار وتعقب بأنه لا يلزم من كون الإمام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة ولا من أدائها إذا تعينت عليه ، والإذن المذكور مراد به التوبيخ لما تدل عليه بقية ألفاظ الحديث : قال الحافظ : وبذلك صرح الجمهور في هذا الموضع وقال ابن حبان : قوله " أشهد " صيغة أمر ، والمراد به نفي الجواز ، وهي كقوله لعائشة : { اشترطي لهم الولاء ، } ا هـ ويؤيد هذا تسميته صلى الله عليه وسلم لذلك جورا كما في الرواية المذكورة في الباب

                                                                                                                                            . السادس : التمسك بقوله " ألا سويت بينهم ؟ " على أن المراد بالأمر الاستحباب وبالنهي التنزيه قال [ ص: 12 ] الحافظ : وهذا جيد لولا ورود تلك الألفاظ الزائدة على هذه اللفظة ، ولا سيما رواية " سو بينهم " . السابع : قالوا : المحفوظ في حديث النعمان { قاربوا بين أولادكم } لا سووا وتعقب بأنكم لا توجبون المقارنة كما لا توجبون التسوية الثامن : في التشبيه الواقع بينهم ، في التسوية بينهم بالتسوية منهم في البر قرينة تدل على أن الأمر للندب ورد بأن إطلاق الجور على عدم التسوية والنهي عن التفضيل يدلان على الوجوب فلا تصلح تلك القرينة لصرفهما وإن صلحت لصرف الأمر . التاسع : ما تقدم عن أبي بكر من نحلته لعائشة وقوله لها : " فلو كنت احترثته " كما تقدم في أول كتاب الهبة ، وكذلك ما رواه الطحاوي عن عمر : أنه نحل ابنه عاصما دون سائر ولده ، ولو كان التفضيل غير جائز لما وقع من الخليفتين

                                                                                                                                            . قال في الفتح : وقد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن إخوتها كانوا راضين ويجاب بمثل ذلك عن قصة عاصم ا هـ على أنه لا حجة في فعلهما لا سيما إذا عارض المرفوع . العاشر : أن الإجماع انعقد على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده ، فإذا جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله لتمليك الغير جاز له أن يخرج بعض أولاده بالتمليك لبعضهم ، ذكره ابن عبد البر قال الحافظ : ولا يخفى ضعفه ; لأنه قياس مع وجود النص ا هـ

                                                                                                                                            . فالحق أن التسوية واجبة وأن التفضيل محرم واختلف الموجبون في كيفية التسوية ، فقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض الشافعية والمالكية : العدل أن يعطى الذكر حظين كالميراث واحتجوا بأن ذلك حظه من المال لو مات عند الواهب وقال غيرهم : لا فرق بين الذكر والأنثى ، وظاهر الأمر بالتسوية ، ويؤيده حديث ابن عباس المتقدم قوله : ( وعن النعمان بن بشير أن أباه . . . إلخ ) قد روى هذا الحديث عن النعمان عدد كثير من التابعين منهم عروة بن الزبير عند مسلم والنسائي وأبي داود وأبو الضحى عند النسائي وابن حبان وأحمد والطحاوي والمفضل بن المهلب عند أحمد وأبي داود والنسائي وعبد الله بن عتبة بن مسعود عند أحمد وعون بن عبد الله عند أبي عوانة والشعبي عند الشيخين وأبي داود وأحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم ، وقد رواه النسائي من مسند بشير والد النعمان فشذ بذلك

                                                                                                                                            . قوله : ( نحلت ابني هذا ) بفتح النون والحاء المهملة : أي أعطيت ، والنحلة بكسر النون وسكون المهملة : العطية بغير عوض قوله : ( غلاما ) في رواية لابن حبان والطبراني عن الشعبي : { أن النعمان خطب بالكوفة فقال : إن والدي بشير بن سعد أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن عمرة بنت رواحة نفست بغلام وإني سميته النعمان وإنها أبت أن تربيه حتى جعلت له حديقة من أفضل مال هو لي ، وأنها قالت : أشهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه قوله : لا أشهد على جور } وجمع ابن حبان بين الروايتين بالحمل على واقعتين : [ ص: 13 ] إحداهما : عند ولادة النعمان وكانت العطية حديقة ، والأخرى بعد أن كبر النعمان وكانت العطية عبدا

                                                                                                                                            قال في الفتح : وهو جمع لا بأس به إلا أنه يعكر عليه أنه يبعد أن ينسى بشير بن سعد مع جلالته الحكم في المسألة حتى يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيستشهده عن العطية الثانية بعد أن قال له في الأولى : " لا أشهد على جور " وجوز ابن حبان أن يكون بشير ظن نسخ الحكم وقال غيره : يحتمل أن يكون حمل الأمر الأول على كراهة التنزيه ، أو ظن أنه لا يلزم من الامتناع في الحديقة الامتناع في العبد ; لأن ثمن الحديقة في الأغلب أكثر من ثمن العبد قال الحافظ : ثم ظهر وجه آخر من الجمع يسلم من هذا الخدش ولا يحتاج إلى جوابه ، وهو أن عمرة لما امتنعت من تربيته إلا أن يهب له شيئا يخصه به وهبه الحديقة المذكورة تطييبا لخاطرها ، ثم بدا له فارتجعها ; لأنه لم يقبضها منه غيره ، فعاودته عمرة في ذلك فمطلها سنة أو سنتين ، ثم طابت نفسه أن يهب له بدل الحديقة غلاما ورضيت عمرة بذلك إلا أنها خشيت أن يرتجعه أيضا ، فقالت له : أشهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تريد بذلك تثبيت العطية وأن تأمن رجوعه فيها ويكون مجيئه للإشهاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة وهي الأخيرة ، وغاية ما فيه أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ غيره ، أو كان النعمان يقص بعض القصة تارة وبعضها أخرى ، فسمع كل ما رواه فاقتصر عليه ا هـ

                                                                                                                                            . ولا يخفى ما في هذا الجمع من التكلف وقد وقع في رواية عند ابن حبان عن النعمان قال : سألت أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله ، زاد مسلم والنسائي من هذا الوجه : " فالتوى بها سنة " أي مطلها وفي رواية لابن حبان أيضا : " بعد حولين " ويجمع بينهما بأن المدة كانت سنة وشيئا فجبر الكسر تارة وألغاه أخرى وفي رواية له قال : " فأخذ بيدي وأنا غلام " ولمسلم : " انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويجمع بينهما بأنه أخذ بيده فمشى معه بعض الطريق وحمله في بعضها لصغر سنه

                                                                                                                                            . قوله : ( فقال : أرجعه ) لفظ مسلم : " اردده " وله أيضا والنسائي : " فرجع فرد عطيته " ولمسلم أيضا : " فرد تلك الصدقة " زاد في رواية لابن حبان : " لا تشهدني على جور " ومثله لمسلم وقد تقدم لابن حبان أيضا والطبراني مثل ذلك ، وذكر هذا اللفظ البخاري تعليقا في الشهادات وفي رواية لابن حبان من طريق أخرى : { لا تشهدني إذن فإني لا أشهد على جور } وله في طريق أخرى أيضا : { فإني لا أشهد على جور ، أشهد على هذا غيري } وله وللنسائي من طريق أخرى : " فأشهد على هذا غيري " ولعبد الرزاق عن طاوس مرسلا : { لا أشهد إلا على الحق ، لا أشهد بهذه } وللنسائي { فكره أن يشهد له } وفي رواية لمسلم : { اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر } ولأحمد : { أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء ؟ قال بلى ، قال : [ ص: 14 ] فلا إذن } ولأبي داود : { إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم كما لك عليهم من الحق أن يبروك } وللنسائي : " ألا سويت بينهم ؟ " وله ولابن حبان : " سو بينهم "

                                                                                                                                            قال الحافظ : واختلاف الألفاظ في هذه القصة الواحدة يرجع إلى معنى واحد قوله : ( أفعلت هذا بولدك كلهم ؟ ) قال مسلم : أما معمر ويونس فقالا : " أكل بنيك " وأما الليث وابن عيينة فقالا : " أكل ولدك " قال الحافظ : ولا منافاة بينهما لأن لفظ الولد يشمل الذكور والإناث ، وأما لفظ البنين فإن كانوا ذكورا فظاهر ، وإن كانوا إناثا وذكورا فعلى سبيل التغليب




                                                                                                                                            الخدمات العلمية