الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            أبواب المسح على الخفين باب في شرعيته

                                                                                                                                            223 - ( عن جرير ، أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل له : تفعل هكذا ؟ قال : نعم ، { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ، ثم توضأ ومسح على خفيه } ، قال إبراهيم : فكان يعجبهم هذا الحديث ; لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة . متفق عليه ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            ورواه أبو داود وزاد ( فقال جرير : ما سئل هل كان ذلك قبل المائدة أو بعدها ؟ ما أسلمت إلا بعد المائدة ) . وكذلك رواه الترمذي من طريق شهر بن حوشب قال : ( فقلت له أقبل المائدة أم بعدها ؟ فقال جرير : ما أسلمت إلا بعد المائدة ) . وعند الطبراني من رواية محمد بن سيرين عن جرير أنه كان في حجة الوداع ، قال الترمذي : هذا حديث مفسر ; لأن بعض من أنكر المسح على الخفين تأول مسح النبي صلى الله عليه وسلم على الخفين أنه كان قبل التي في المائدة فيكون منسوخا .

                                                                                                                                            والحديث يدل على مشروعية المسح على الخفين ، وقد نقل ابن المنذر عن ابن المبارك قال : ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف ; لأن كل من روي عنه منهم إنكاره ، فقد روي عنه إثباته . وقال ابن عبد البر : لا أعلم من روى عن أحد من فقهاء السلف إنكاره إلا عن مالك ، مع أن الروايات الصحيحة مصرحة عنه بإثباته ، وقد أشار الشافعي في الأم إلى إنكار ذلك على المالكية ، والمعروف المستقر عندهم الآن قولان : الجواز مطلقا ، ثانيهما : للمسافر دون المقيم . وعن ابن نافع في المبسوطة أن مالكا إنما كان يتوقف في خاصة نفسه مع إفتائه بالجواز .

                                                                                                                                            قال ابن المنذر : اختلف العلماء أيهما أفضل : المسح على الخفين ، أو نزعهما وغسل القدمين ؟ والذي أختاره أن المسح أفضل لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض . قال : وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه انتهى .

                                                                                                                                            قال النووي في شرح مسلم : وقد روى المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة ، قال الحسن : حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين } أخرجه عنه ابن أبي شيبة ، قال الحافظ في الفتح : وقد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين منهم العشرة . وقال الإمام أحمد : فيه أربعون حديثا عن [ ص: 225 ] الصحابة مرفوعة ، وقال ابن أبي حاتم : فيه عن أحد وأربعين .

                                                                                                                                            وقال ابن عبد البر في الاستذكار روى عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين نحو أربعين من الصحابة . وذكر أبو القاسم بن منده أسماء من رواه في تذكرته ، فكانوا ثمانين صحابيا . وذكر الترمذي والبيهقي في سننهما منهم جماعة . وقد نسب القول بمسح الخفين إلى جميع الصحابة ، كما تقدم عن ابن المبارك ، وما روي عن عائشة وابن عباس وأبي هريرة من إنكار المسح ، فقال ابن عبد البر : لا يثبت . قال أحمد : لا يصح حديث أبي هريرة في إنكار المسح وهو باطل . وقد روى الدارقطني عن عائشة القول بالمسح .

                                                                                                                                            وما أخرجه ابن أبي شيبة عن علي أنه قال : سبق الكتاب الخفين فهو منقطع .

                                                                                                                                            وقد روى عنه مسلم والنسائي القول به بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وما روي عن عائشة أنها قالت : لأن أقطع رجلي أحب إلي من أن أمسح عليهما ، ففيه محمد بن مهاجر ، قال ابن حبان : كان يضع الحديث . وأما القصة التي ساقها الأمير الحسين في الشفاء وفيها المراجعة الطويلة بين علي وعمر ، واستشهاد علي لاثنين وعشرين من الصحابة فشهدوا بأن المسح كان قبل المائدة .

                                                                                                                                            قال ابن بهران : لم أر هذه القصة في شيء من كتب الحديث . ويدل لعدم صحتها عند أئمتنا أن الإمام المهدي نسب القول بمسح الخفين في البحر إلى علي عليه السلام ، وذهبت العترة جميعا والإمامية والخوارج وأبو بكر بن داود الظاهري إلى أنه لا يجزئ المسح عن غسل الرجلين ، واستدلوا بآية المائدة وبقوله صلى الله عليه وسلم لمن علمه : ( واغسل رجلك ) ولم يذكر المسح . وقوله بعد غسلهما : { لا يقبل الله الصلاة من دونه } وقوله : { ويل للأعقاب من النار } قالوا : والأخبار بمسح الخفين منسوخة بالمائدة .

                                                                                                                                            وأجيب عن ذلك ، أما الآية قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم المسح بعدها كما في حديث جرير المذكور في الباب . وأما حديث ( واغسل رجلك ) فغاية ما فيه الأمر بالغسل وليس فيه ما يشعر بالقصر ، ولو سلم وجود ما يدل على ذلك لكان مخصصا بأحاديث المسح المتواترة . وأما حديث : { لا يقبل الله الصلاة بدونه } فلا ينتهض للاحتجاج به ، فكيف يصلح لمعارضة الأحاديث المتواترة مع أنا لم نجده بهذا اللفظ من وجه يعتد به .

                                                                                                                                            وأما حديث { ويل للأعقاب من النار } فهو وعيد لمن مسح رجليه ولم يغسلهما ، ولم يرد في المسح على الخفين . فإن قلت : هو عام فلا يقصر على السبب . قلت : لا نسلم شموله لمن مسح على الخفين ، فإنه يدع رجله كلها ، ولا يدع العقب فقط . سلمنا فأحاديث المسح على الخفين مخصصة للماسح من ذلك الوعيد . وأما دعوى النسخ فالجواب أن الآية عامة مطلقا باعتبار حالتي لبس الخف وعدمه ، فتكون أحاديث الخفين مخصصة أو مقيدة فلا نسخ . وقد تقرر في الأصول رجحان القول ببناء العام على الخاص مطلقا .

                                                                                                                                            وأما من يذهب إلى أن العام المتأخر ناسخ ، فلا يتم له ذلك إلا بعد تصحيح تأخر الآية وعدم وقوع المسح بعدها . وحديث [ ص: 226 ] جرير نص في موضع النزاع ، والقدح في جرير بأنه فارق عليا ممنوع فإنه لم يفارقه ، وإنما احتبس عنه بعد إرساله إلى معاوية لأعذار . على أنه قد نقل الإمام الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير الإجماع على قبول رواية فاسق التأويل في عواصمه وقواصمه من عشر طرق ، ونقل الإجماع أيضا من طرق أكابر أئمة الآل وأتباعهم على قبول رواية الصحابة قبل الفتنة وبعدها ، فالاسترواح إلى الخلوص عن أحاديث المسح بالقدح في ذلك الصحابي الجليل بذلك الأمر مما لم يقل به أحد من العترة وأتباعهم وسائر علماء الإسلام .

                                                                                                                                            وصرح الحافظ في الفتح بأن آية المائدة نزلت في غزوة المريسيع وحديث المغيرة الذي تقدم وسيأتي كان في غزوة تبوك ، وتبوك متأخرة بالاتفاق .

                                                                                                                                            وقد صرح أبو داود في سننه بأن حديث المغيرة في غزوة تبوك ، وقد ذكر البزار أن حديث المغيرة هذا رواه عنه ستون رجلا . واعلم أن في المقام مانعا من دعوى النسخ لم يتنبه له أحد فيما علمت ، وهو أن الوضوء ثابت قبل نزول المائدة بالاتفاق ، فإن كان المسح على الخفين ثابتا قبل نزولها فورودها بتقرير أحد الأمرين أعني الغسل - مع عدم التعرض للآخر وهو المسح لا يوجب نسخ المسح على الخفين لا سيما إذا صح ما قاله البعض من أن قراءة الجر في قوله في الآية { وأرجلكم } مراد بها مسح الخفين ، وأما إذا كان المسح غير ثابت قبل نزولها فلا نسخ بالقطع . نعم ، يمكن أن يقال على التقدير الأول : إن الأمر بالغسل نهي عن ضده ، والمسح على الخفين من أضداد الغسل المأمور به ، لكن كون الأمر بالشيء نهيا عن ضده محل نزاع واختلاف ، وكذلك كون المسح على الخفين ضدا للغسل ، وما كان بهذه المثابة حقيق بأن لا يعول عليه لا سيما في إبطال مثل هذه السنة التي سطعت أنوار شموسها في سماء الشريعة المطهرة .

                                                                                                                                            والعقبة الكئود في هذه المسألة نسبة القول بعدم إجزاء المسح على الخفين إلى جميع العترة المطهرة ، كما فعله الإمام المهدي في البحر ، ولكنه يهون الخطب بأن إمامهم وسيدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من القائلين بالمسح على الخفين ، وأيضا هو إجماع ظني ، وقد صرح جماعة من الأئمة منهم : الإمام يحيى بن حمزة بأنها تجوز مخالفته . وأيضا فالحجة إجماع جميعهم ، وقد تفرقوا في البسيطة ، وسكنوا الأقاليم المتباعدة ، وتمذهب كل واحد منهم بمذهب أهل بلده ، فمعرفة إجماعهم في جانب التعذر .

                                                                                                                                            وأيضا لا يخفى على المصنف ما ورد على إجماع الأمة من الإيرادات التي لا يكاد ينتهض معها للحجية بعد تسليم إمكانه ووقوعه . وانتفاء حجية الأعم يستلزم انتفاء حجية الأخص . وللمسح شروط وصفات ، وفي وقته اختلاف ، وسيذكر المصنف رحمه اللهجميع ذلك والخف نعل من أدم يغطي الكعبين والجرموق أكبر منه يلبس فوقه ، والجورب أكبر من الجرموق [ ص: 227 ]

                                                                                                                                            224 - ( وعن عبد الله بن عمر أن سعدا حدثه { عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يمسح على الخفين ، } وأن ابن عمر سأل عن ذلك عمر ، قال : نعم إذا حدثك سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فلا تسأل عنه غيره رواه أحمد والبخاري .

                                                                                                                                            وفيه دليل على قبول خبر الواحد ) . الحديث أخرجه أحمد أيضا من طريق أخرى عن ابن عمر ، وفيها قال : ( رأيت سعد بن أبي وقاص يمسح على خفيه بالعراق حين توضأ ، فأنكرت ذلك عليه فلما اجتمعنا عند عمر قال لي سعد : سل أباك فذكر القصة ) ورواه ابن خزيمة أيضا عن ابن عمر بنحوه وفيه أن عمر قال : { كنا ونحن مع نبينا نمسح على خفافنا لا نرى بذلك بأسا } .

                                                                                                                                            قوله : ( فلا تسأل عنه غيره ) قال الحافظ : فيه دليل على أن الصفات الموجبة للترجيح إذا اجتمعت في الراوي كانت من جملة القرائن التي إذا حفت خبر الواحد قامت مقام الأشخاص المتعددة ، وقد تفيد العلم عند البعض دون البعض ، وعلى أن عمر كان يقبل خبر الواحد ، وما نقل عنه من التوقف ، إنما كان عند وقوع ريبة له في بعض المواضع ، قال : وفيه أن الصحابي قديم الصحبة قد يخفى عليه من الأمور الجليلة في الشرع ما يطلع عليه غيره ; لأن ابن عمر أنكر المسح على الخفين مع قديم صحبته ، وكثرة روايته ، وقد روى القصة في الموطإ أيضا . والحديث يدل على المسح على الخفين ، وقد تقدم الكلام عليه في الذي قبله

                                                                                                                                            225 - ( وعن المغيرة بن شعبة قال : { كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فقضى حاجته ، ثم توضأ ومسح على خفيه ، قلت : يا رسول الله أنسيت ؟ قال : بل أنت نسيت بهذا أمرني ربي عز وجل } . رواه أحمد وأبو داود .

                                                                                                                                            وقال الحسن البصري : روى المسح سبعون نفسا فعلا منه وقولا ) . الحديث إسناده صحيح ، ولم يتكلم عليه أبو داود ولا المنذري في تخريج السنن ولا غيرهما . وقد رواه أبو داود في الطهارة عن هدبة بن خالد عن همام عن قتادة عن الحسن وعن زرارة بن أوفى كلاهما عن المغيرة به . وفي رواية أبي عيسى الرملي عن أبي داود عن الحسن بن أعين عن زرارة بن أوفى عن المغيرة ، وهؤلاء كلهم رجال الصحيح ، وما يظن من تدليس الحسن قد ارتفع بمتابعة زرارة له .

                                                                                                                                            وقد تقدم الكلام عليه في أول الباب .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية