الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب الوضوء من الخارج النجس من غير السبيلين

                                                                                                                                            239 - ( عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء { أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك ، فقال : صدق أنا صببت له وضوءه } . رواه أحمد والترمذي وقال : هو أصح شيء في هذا الباب ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الحديث هو عند أحمد وأصحاب السنن الثلاث وابن الجارود وابن حبان والدارقطني [ ص: 237 ] والبيهقي والطبراني وابن منده والحاكم بلفظ : { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر قال معدان : فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فقلت له : إن أبا الدرداء أخبرني فذكره ، فقال : صدق أنا صببت عليه وضوءه } قال ابن منده : إسناده صحيح متصل وتركه الشيخان لاختلاف في إسناده .

                                                                                                                                            قال الترمذي : جوده حسين المعلم ، وكذا قال أحمد وفيه اختلاف كثير ذكره الطبراني وغيره ، قال البيهقي : هذا حديث مختلف في إسناده فإن صح فهو محمول على القيء عامدا وقال في موضع آخر : إسناده مضطرب ، ولا تقوم به حجة وهو باللفظ الذي ذكره المصنف في جامع الأصول والتيسير منسوبا إلى أبي داود والترمذي ، والحديث استدل به على أن القيء من نواقض الوضوء وقد ذهب إلى ذلك العترة وأبو حنيفة وأصحابه وقيده بقيود .

                                                                                                                                            الأول : كونه من المعدة . الثاني : كونه ملء الفم . الثالث : كونه دفعة واحدة . وذهب الشافعي وأصحابه والناصر والباقر والصادق إلى أنه غير ناقض ، وأجابوا عن الحديث بأن المراد بالوضوء غسل اليدين ويرد بأن الوضوء من الحقائق الشرعية وهو فيها لغسل أعضاء الوضوء وغسل بعضها مجاز فلا يصار إليه إلا بعلاقة وقرينة ، قالوا : القرينة أنه استقاء بيده كما ثبت في بعض الألفاظ والعلاقة ظاهرة . وأجابوا أيضا بأنه فعل وهو لا ينتهض على الوجوب .

                                                                                                                                            واستدل الأولون أيضا بحديث إسماعيل بن عياش الآتي بعد هذا ، وسيأتي أنه لا يصلح لذلك لما فيه من المقال الذي سيذكره ، واستدلوا بما في كتب الأئمة من حديث علي { : الوضوء كتبه الله علينا من الحدث ، قال صلى الله عليه وسلم بل من سبع وفيها ودفعة تملأ الفم } قالوا : معارض بما في كتب الأئمة أيضا في الانتصار والبحر وغيرهما من حديث ثوبان قال : { قلت يا رسول الله : هل يجب الوضوء من القيء ؟ قال : لو كان واجبا لوجدته في كتاب الله } قال في البحر : قلنا : مفهوم وحديثنا منطوق ولعله متقدم انتهى .

                                                                                                                                            والجواب الأول صحيح ولكنه لا يفيد إلا بعد تصحيح الحديث والجواب الثاني من الأجوبة التي لا تقع لمنصف لا متيقظ فإن كل أحد لا يعجز عن مثل هذه المقالة وهي غير نافقة في أسواق المناظرة وقد كثرت أمثال هذه العبارة في ذلك الكتاب .

                                                                                                                                            240 - ( وعن إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ، ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم } رواه ابن ماجه والدارقطني وقال الحفاظ من أصحاب ابن جريج يروونه عن ابن جريج عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ) . [ ص: 238 ] الحديث أعله غير واحد بأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن ابن جريج وهو حجازي ورواية إسماعيل عن الحجازيين ضعيفة ، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب ابن جريج فرووه مرسلا كما قال المصنف ، وصحح هذه الطريقة المرسلة الذهلي والدارقطني في العلل وأبو حاتم وقال ، رواية إسماعيل خطأ . وقال ابن معين : حديث ضعيف . وقال أحمد : الصواب عن ابن جريج عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ورواه الدارقطني من حديث إسماعيل بن عياش أيضا عن عطاء بن عجلان وعباد بن كثير عن ابن أبي مليكة عن عائشة ، وقال بعده : عطاء وعباد ضعيفان . وقال البيهقي : الصواب إرساله ، وقد رفعه أيضا سليمان بن أرقم وهو متروك .

                                                                                                                                            وفي الباب عن ابن عباس عند الدارقطني وابن عدي والطبراني بلفظ { إذا رعف أحدكم في صلاته فلينصرف فليغسل عنه الدم ثم ليعد وضوءه وليستقبل صلاته } قال الحافظ : وفيه سليمان بن أرقم وهو متروك وعن أبي سعيد عند الدارقطني بلفظ : { إذا قاء أحدكم أو رعف وهو في الصلاة أو أحدث فلينصرف فليتوضأ ثم ليجئ فليبن على ما مضى } وفيه أبو بكر الزاهري وهو متروك ، رواه عبد الرزاق في مصنفه موقوفا على علي وإسناده حسن قاله الحافظ ، وعن سلمان نحوه .

                                                                                                                                            وعن ابن عمر عند مالك في الموطإ ( أنه كان إذا رعف رجع فتوضأ ولم يتكلم ثم يرجع ويبني ) وروى الشافعي من قوله نحوه قوله : ( قلس ) هو بفتح القاف واللام ويروى بسكونها قال الخليل : هو ما خرج من الحلق ملء الفم أو دونه وليس بقيء وإن عاد فهو القيء ، وفي النهاية القلس : ما خرج من الجوف ، ثم ذكر مثل كلام الخليل . والحديث استدل به على أن القيء والرعاف والقلس والمذي نواقض للوضوء ، وقد تقدم ذكر الخلاف في القيء والخلاف في القلس مثله ، وأما الرعاف فهو ناقض للوضوء ، وقد ذهب إلى أن الدم من نواقض الوضوء القاسمية وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل وإسحاق وقيدوه بالسيلان ، وذهب ابن عباس والناصر ومالك والشافعي وابن أبي أوفى وأبو هريرة وجابر بن زيد وابن المسيب ومكحول وربيعة إلى أنه غير ناقض .

                                                                                                                                            استدل الأولون بحديث الباب ورد بأن فيه المقال المذكور واستدلوا بحديث ( بل من سبع ) الذي ذكرناه في الحديث الذي قبل هذا ، ورد بأنه لم يثبت عند أحد من أئمة الحديث المعتبرين ، وبالمعارضة بحديث أنس الذي سيأتي ، وأجيب بأن حديث أنس حكاية فعل فلا يعارض القول ، ولكن هذا يتوقف على صحة القول ولم يصح . وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه وابن ماجه والبيهقي من حديث أبي هريرة { لا وضوء إلا من صوت أو ريح } قال البيهقي : هذا حديث ثابت . وقد اتفق الشيخان على إخراج معناه من حديث عبد الله بن زيد ، ورواه أحمد والطبراني [ ص: 239 ] من حديث السائب بن خباب بلفظ : { لا وضوء إلا من ريح أو سماع } وقال ابن أبي حاتم : سمعت أبي ، وذكر حديث شعبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا { لا وضوء إلا من صوت أو ريح } فقال أبي : هذا وهم اختصر شعبة من الحديث ، وقال : ( لا وضوء إلا من صوت أو ريح ) ورواه أصحاب سهيل بلفظ : { إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد ريحا من نفسه فلا يخرج حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا } وشعبة إمام حافظ واسع الرواية .

                                                                                                                                            وقد روي هذا اللفظ بهذه الصيغة المشتملة على الحصر ودينه وإمامته ومعرفته بلسان العرب يرد ما ذكره أبو حاتم ، فالواجب البقاء على البراءة الأصلية المعتضدة بهذه الكلية المستفادة من هذا الحديث ، فلا يصار إلى القول بأن الدم أو القيء ناقض إلا لدليل ناهض ، والجزم بالوجوب قبل صحة المستند كالجزم بالتحريم قبل صحة النقل والكل من التقول على الله بما لم يقل ، ومن المؤيدات لما ذكرنا حديث ( أن عباد بن بشر أصيب بسهام وهو يصلي فاستمر في صلاته ) عند البخاري تعليقا ، وأبي داود وابن خزيمة ويبعد أن لا يطلع النبي صلى الله عليه وسلم على مثل هذه الواقعة العظيمة ولم ينقل أنه أخبره بأن صلاته قد بطلت ، وأما المذي فقد صحت الأدلة في إيجابه للوضوء ، وقد أسلفنا الكلام على ذلك . في باب ما جاء في المذي من أبواب تطهير النجاسة ، وفي الحديث دلالة على أن الصلاة لا تفسد على المصلي إذا سبقه الحدث ، ولم يتعمد خروجه ، وقد ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وصاحباه ومالك .

                                                                                                                                            وروي عن زيد بن علي وقديم قولي الشافعي ، والخلاف في ذلك للهادي والناصر والشافعي في أحد قوليه ، فإن تعمد خروجه فإجماع على أنه ناقض ، واستدل على النقض بحديث : { إذا فسا أحدكم فلينصرف وليتوضأ وليستأنف الصلاة } أخرجه أبو داود ولعله يأتي في الصلاة إن شاء الله تمام تحقيق البحث .

                                                                                                                                            241 - ( وعن أنس قال : { احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه } . رواه الدارقطني ) . الحديث رواه أيضا البيهقي قال الحافظ : وفي إسناده صالح بن مقاتل وهو ضعيف ، وادعى ابن العربي أن الدارقطني صححه وليس كذلك بل قال عقبه في السنن : صالح بن مقاتل ليس بالقوي . وذكره النووي في فصل الضعيف .

                                                                                                                                            والحديث يدل على أن خروج الدم لا ينقض الوضوء ، وقد تقدم الكلام عليه في الذي قبله ، قال المصنف رحمه الله تعالى: وقد صح عن جماعة من الصحابة ترك الوضوء من يسير الدم ويحمل حديث أنس [ ص: 240 ] عليه وما قبله على الكثير الفاحش كمذهب أحمد ومن وافقه جمعا بينهما انتهى . ويؤيد هذا الجمع ما أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة مرفوعا : { ليس في القطرة ولا في القطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون دما سائلا } ولكن فيه محمد بن الفضل بن عطية وهو متروك . قال الحافظ : وإسناده ضعيف جدا . ويؤيده أيضا ما روي عن ابن عمر عند الشافعي وابن أبي شيبة والبيهقي ( أنه عصر بثرة في وجهه فخرج شيء من دمه فحكه بين أصبعيه ثم صلى ولم يتوضأ ) . وعلقه البخاري .

                                                                                                                                            وعنه أيضا : { أنه كان إذا احتجم غسل أثر المحاجم } ذكره في التلخيص لابن حجر . وعن ابن عباس أنه قال : ( اغسل أثر المحاجم عنك وحسبك ) رواه الشافعي وعن ابن أبي أوفى ذكره الشافعي ووصله البيهقي في المعرفة وكذا عن أبي هريرة موقوفا . وعن جابر علقه البخاري ووصله ابن خزيمة وأبو داود من طريق عقيل بن جابر عن أبيه وذكر قصة الرجلين اللذين حرسا فرمي أحدهما بسهام وهو يصلي وقد تقدم . وعقيل بن جابر قال في الميزان : فيه جهالة . قال في الكاشف ذكره ابن حبان في الثقات وقد روي نحو ذلك عن عائشة قال الحافظ : لم أقف عليه فهؤلاء الجماعة من الصحابة هم المرادون بقول المصنف . وقد صح عن جماعة من الصحابة ، وقد عرفت ما هو الحق في شرح الحديث الذي قبل هذا .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية