الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب رجم المحصن من أهل الكتاب وأن الإسلام ليس بشرط في الإحصان 3098 - ( عن ابن عمر أن { اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة منهم قد زنيا ، فقال : ما تجدون في كتابكم ؟ فقالوا : تسخم وجوههما ويخزيان ، قال : كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ، فجاءوا بالتوراة وجاءوا بقارئ لهم فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع منها وضع يده عليه ، فقيل له : ارفع يدك ، فرفع يده فإذا هي تلوح ، فقال أو قالوا : يا محمد إن فيها الرجم ولكنا كنا نتكاتمه بيننا ، [ ص: 111 ] فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما ، قال : رأيته يجنأ عليها يقيها الحجارة بنفسه } . متفق عليه ، وفي رواية أحمد بقار لهم أعور يقال له ابن صوريا ) .

                                                                                                                                            3099 - ( وعن جابر بن عبد الله قال { : رجم النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم ورجلا من اليهود وامرأة } . رواه أحمد ومسلم ) .

                                                                                                                                            3100 - ( وعن البراء بن عازب قال { : مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال : أهكذا تجدون حد الزنا في كتابكم ؟ قالوا : نعم ، فدعا رجلا من علمائهم ، فقال : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قال : لا ، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم ، ولكن كثر في أشرافنا وكنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا } إلى قوله : { إن أوتيتم هذا فخذوه } ، يقولون : ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } قال : هي في الكفار كلها } . رواه أحمد ومسلم وأبو داود ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( تسخم ) بسين مهملة ثم خاء معجمة ، قال في القاموس : السخم : محركة السواد ، والأسخم الأسود ، ثم قال : وقد تسخم عليه وسخم بصدره تسخيما أغضبه ووجهه سوده . قوله : ( ويخزيان ) بالخاء والزاي المعجمتين أي يفضحان ويشهران . قال في القاموس خزي كرضي خزيا بالكسر وقع في بلية وشهرة فذل بذلك وأخزاه الله : فضحه . قوله : ( فإذا هي تلوح ) يعني آية الرجم . قوله : ( رأيته يجنأ ) بفتح أوله وسكون الجيم وفتح النون بعدها همزة أي ينحني . قال في القاموس : جنأ عليه كجعل وفرح جنوءا وجنأ : أكب كأجنأ وجانأ وتجانأ وكفرح : أشرف كاهله على صدره فهو [ ص: 112 ] أجنأ ، والمجنأ بالضم : الترس لا حديد فيه انتهى . وفي هذه اللفظة روايات كثيرة هذه أصحها على ما ذكره صاحب المشارق

                                                                                                                                            قوله : ( رجلا من أسلم ) هو ماعز بن مالك الأسلمي . قوله : ( وامرأة هي الجهنية ) ويقال لها : الغامدية . قوله : ( محمم ) بضم الميم الأولى وفتح الحاء المهملة وتشديد الميم الثانية مفتوحة اسم مفعول أي مسود الوجه ، والتحميم : التسويد ، وأحاديث الباب تدل على أن حد الزنا يقام على الكافر كما يقام على المسلم . وقد حكى صاحب البحر الإجماع على أنه يجلد الحربي ، وأما الرجم فذهب الشافعي وأبو يوسف والقاسمية إلى أنه يرجم المحصن من الكفار . وذهب أبو حنيفة ومحمد وزيد بن علي والناصر والإمام يحيى إلى أنه يجلد ولا يرجم . قال الإمام يحيى : والذمي كالحربي في الخلاف . وقال مالك : لا حد عليه

                                                                                                                                            وأما الحربي المستأمن فذهبت العترة والشافعي وأبو يوسف إلى أنه يحد . وذهب مالك وأبو حنيفة ومحمد إلى أنه لا يحد . وقد بالغ ابن عبد البر فنقل الاتفاق على أن شرط الإحصان الموجب للرجم هو الإسلام . وتعقب بأن الشافعي وأحمد لا يشترطان ذلك ومن جملة من قال : بأن الإسلام شرط ربيعة شيخ مالك وبعض الشافعية . وأحاديث الباب تدل على أنه يحد الذمي كما يحد المسلم . والحربي والمستأمن يلحقان بالذمي بجامع الكفر . وقد أجاب من اشترط الإسلام عن أحاديث الباب بأنه صلى الله عليه وسلم إنما أمضى حكم التوراة على أهلها ولم يحكم عليهم بحكم الإسلام ، وقد كان ذلك عند المدينة

                                                                                                                                            وكان إذ ذاك مأمورا باتباع حكم التوراة ثم نسخ ذلك الحكم بقوله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسف ، ونصب مثله في مقابلة أحاديث الباب من الغرائب ، وكونه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك عند مقدمه المدينة لا ينافي ثبوت الشرعية ، فإن هذا حكم شرعه الله لأهل الكتاب وقرره رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا طريق لنا إلى ثبوت الأحكام التي توافق أحكام الإسلام إلا بمثل هذه الطريق ، ولم يتعقب ذلك في شرعنا ما يبطله ، ولا سيما وهو مأمور بأن يحكم بينهم بما أنزل الله ومنهي عن اتباع أهوائهم كما صرح بذلك القرآن . وقد أتوه صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الحكم ولم يأتوه ليعرفهم شرعهم فحكم بينهم بشرعه ونبههم على أن ذلك ثابت في شرعهم كثبوته في شرعه ، ولا يجوز أن يقال : إنه حكم بينهم بشرعهم مع مخالفته لشرعه لأن الحكم منه بما هو منسوخ عنده لا يجوز على مثله وإنما أراد بقوله : فإني أحكم بينكم بالتوراة . كما وقع في رواية من حديث أبي هريرة إلزامهم الحجة

                                                                                                                                            وأما الاحتجاج بقوله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } فغاية ما فيه أن الله شرع هذا الحكم بالنسبة إلى نساء المسلمين ، وهو مخرج على الغالب كما في الخطابات الخاصة بالمؤمنين والمسلمين مع أن كثيرا منها يستوي فيه الكافر والمسلم بالإجماع ، ولو سلمنا [ ص: 113 ] أن الآية تدل بمفهومها على أن نساء الكفار خارجات عن ذلك الحكم فهذا المفهوم قد عارضه منطوق حديث ابن عمر المذكور في الباب ، فإنه مصرح { بأنه صلى الله عليه وسلم رجم اليهودية مع اليهودي } . ومن غرائب التعصبات ما روي عن مالك أنه قال : إنما رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين لأن اليهود يومئذ لم يكن لهم ذمة فتحاكموا إليه . وتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم إذا أقام الحد على من لا ذمة له فلأن يقيمه على من له ذمة بالأولى ، كذا قال الطحاوي

                                                                                                                                            وقال القرطبي معترضا على قول مالك : إن مجيء اليهود سائلين له صلى الله عليه وسلم يوجب له عهدا كما لو دخلوا للتجارة فإنهم في أمان إلى أن يردوا إلى مأمنهم . وأجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم لما أمر برجمهما من دون استفصال عن الإحصان كان دليلا على أنه حكم بينهم بشرعهم ; لأنه لا يرجم في شرعه إلا المحصن وتعقب ذلك بأنه قد ثبت في طريق عند الطبراني { أن أحبار اليهود اجتمعوا في بيت المدراس وقد زنى رجل منهم بامرأة بعد إحصانهما } .

                                                                                                                                            وأخرج أبو داود عن أبي هريرة { قال : زنى رجل وامرأة من اليهود وقد أحصنا } وفي إسناده رجل من مزينة لم يسم .

                                                                                                                                            وأخرج الحاكم من حديث ابن عباس : { أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية قد أحصنا } .

                                                                                                                                            وأخرج البيهقي من حديث عبد الله بن الحارث الزبيدي { أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية قد زنيا وقد أحصنا } وإسناده ضعيف

                                                                                                                                            فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم قد علم الإحصان بإخبارهم له لأنهم جاءوا إليه سائلين يطلبون رخصة فيبعد أن يكتموا عنه مثل ذلك . ومن جملة ما تمسك به من قال : إن الإسلام شرط حديث ابن عمر مرفوعا وموقوفا : { من أشرك بالله فليس بمحصن } ورجح الدارقطني وغيره الوقف . وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده على الوجهين ، ومنهم من أول الإحصان في هذا الحديث بإحصان القذف . ولأحاديث الباب فوائد ليس هذا موضع بسطها .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية