الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            3667 - ( وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بشماله ، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله } رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه ) .

                                                                                                                                            3668 - ( وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { البركة تنزل في وسط الطعام ، فكلوا من حافتيه ، ولا تأكلوا من وسطه } رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه ) .

                                                                                                                                            3669 - ( وعن عمر بن أبي سلمة قال : { كنت غلاما في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة ، فقال لي : يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك } متفق عليه ) .

                                                                                                                                            3670 - ( وعن أبي جحيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أما أنا فلا آكل متكئا } رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( لا يأكل أحدكم بشماله ) فيه النهي عن الأكل والشرب بشماله ، والنهي حقيقة في التحريم كما تقرر في الأصول ، ولا يكون مجرد الكراهة فقط إلا مجازا مع قيام صارف . قالالنووي : وهذا إذا لم يكن عذرا ، فإن كان عذر يمنع الأكل أو الشرب باليمين من مرض أو جراحة أو غير ذلك فلا كراهة في الشمال . قوله : ( فإن الشيطان يأكل . . . إلخ ) إشارة إلى أنه ينبغي اجتناب الأفعال التي تشبه أفعال الشيطان ، وقد تقدم الخلاف : هل ذلك على الحقيقة أم على المجاز . قوله : ( البركة تنزل في وسط الطعام ) لفظ أبي داود { إذا أكل أحدكم طعاما فلا يأكل من أعلى الصحفة ولكن ليأكل من أسفلها ، فإن البركة تنزل من أعلاها } وفيه مشروعية الأكل من جوانب الطعام قبل وسطه . قال الرافعي وغيره : [ ص: 184 ] يكره أن يأكل من أعلى الثريد ووسط القصعة ، وأن يأكل مما يلي أكيله ولا بأس بذلك في الفواكه . وتعقبه الإسنوي بأن الشافعي نص على التحريم ، فإن لفظه في الأم : فإن أكل مما يليه أو من رأس الطعام أثم بالفعل الذي فعله إذا كان عالما ، واستدل بالنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأشار إلى هذا الحديث . قال الغزالي : وكذا لا يأكل من وسط الرغيف بل من استدارته إلا إذا قل الخبز فليكسر الخبز . والعلة في ذلك ما في الحديث من كون البركة تنزل في وسط الطعام قوله : ( تطيش ) بكسر الطاء وبعدها مثناة تحتية ساكنة : أي تتحرك وتمتد إلى نواحي الصحفة ولا تقتصر على موضع واحد .

                                                                                                                                            قال النووي : والصحفة دون القصعة : وهي ما تسع ما يشبع خمسة ، والقصعة تشبع عشرة ، كذا قاله الكسائي فيما حكاه الجوهري وغيره عنه . وقيل الصحفة كالقصعة وجمعها صحاف . قال النووي أيضا : وفي هذا الحديث ثلاث سنن من سنن الأكل وهي : التسمية ، والأكل باليمين وقد سبق بيانهما ، والثالثة : الأكل مما يليه لأن أكله من موضع يد صاحبه سوء عشرة وترك مروءة قد يتقذره صاحبه لا سيما في الأمراق وشبهها ، وهذا في الثريد والأمراق وشبههما ، فإن كان تمرا وأجناسا فقد نقلوا إباحة اختلاف الأيدي في الطبق ونحوه ، والذي ينبغي تعميم النهي حملا للنهي على عمومه حتى يثبت دليل مخصص والله أعلم .

                                                                                                                                            قوله : ( أما أنا فلا آكل متكئا ) سبب هذا الحديث قصة الأعرابي المذكور في حديث عبد الله بن بسر عند ابن ماجه والطبراني بإسناد حسن قال : { أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فجثى على ركبتيه يأكل ، فقال له أعرابي : ما هذه الجلسة ؟ فقال : إن الله جعلني عبدا كريما ولم يجعلني جبارا عنيدا } قال ابن بطال : إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تواضعا لله ، ثم ذكر من طريق أيوب عن الزهري قال : { أتى النبي صلى الله عليه وسلم ملك لم يأته قبلها فقال : إن ربك يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا أو ملكا نبيا ، قال : فنظر إلى جبريل كالمستشير له ، فأومأ إليه أن تواضع ، فقال : بل عبدا نبيا ، فما أكل متكئا } ا هـ . قال الحافظ : وهذا مرسل أو معضل ، وقد وصله النسائي من طريق الزبيدي عن الزهري عن محمد بن عبد الله بن عباس قال : كان ابن عباس يحدث فذكر نحوه .

                                                                                                                                            وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال : { ما رئي النبي صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا قط } .

                                                                                                                                            وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد قال : { ما أكل صلى الله عليه وسلم متكئا إلا مرة ثم نزع فقال : اللهم إني عبدك ورسولك } وهذا مرسل . ويمكن الجمع بأن تلك المرة التي في أثر مجاهد ما اطلع عليها عبد الله بن عمرو .

                                                                                                                                            وقد أخرج ابن شاهين في ناسخه من مرسل عطاء بن يسار { أن جبريل رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا فنهاه } .

                                                                                                                                            ومن حديث أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهاه جبريل عن الأكل متكئا لم يأكل متكئا بعد ذلك } واختلف في صفة الاتكاء ، فقيل أن يتمكن في الجلوس للأكل على أي [ ص: 185 ] صفة كان ، وقيل : أن يميل على أحد شقيه ، وقيل : أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض . قال الخطابي : يحسب العامة أن المتكئ هو الآكل على أحد شقيه وليس كذلك ، بل هو المعتمد على الوطاء عند الأكل لأنه صلى الله عليه وسلم قال : { إني أذم فعل من يستكثر من الطعام ، فإني لا آكل إلا البلغة من الزاد فلذلك أقعد مستوفزا } وفي حديث أنس { أنه صلى الله عليه وسلم أكل تمرا وهو مقع } والمراد الجلوس على وركيه غير متمكن .

                                                                                                                                            وأخرج ابن عدي بسند ضعيف { زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الرجل على يده اليسرى عند الأكل } قال مالك : هو نوع من الاتكاء .

                                                                                                                                            قال الحافظ : وفي هذا إشارة من مالك إلى كراهة ما يعد الآكل فيه متكئا ولا يختص بصفة بعينها . وجزم ابن الجوزي في تفسير الاتكاء بأنه الميل على أحد الشقين ولم يلتفت لإنكار الخطابي ذلك . وحكى ابن الأثير في النهاية أن من فسر الاتكاء بالميل على أحد الشقين تأوله على مذهب الطب بأنه لا ينحدر في مجاري الطعام سهلا ولا يسيغه لي هنيئا . واختلف السلف في حكم الأكل متكئا ، فزعم ابن القاص أن ذلك من الخصائص النبوية . وتعقبه البيهقي فقال : يكره لغيره أيضا لأنه من فعل المتعظمين وأصله مأخوذ من ملوك العجم ، قال : فإن كان بالمرء مانع لا يتمكن معه الآكل إلا متكئا لم يكن في ذلك كراهة

                                                                                                                                            ، ثم ساق عن جماعة من السلف أنهم أكلوا كذلك . وأشار إلى حمل ذلك عنهم على الضرورة ، وفي الحمل نظر . وقد أخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس وخالد بن الوليد وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين وعطاء بن يسار والزهري جواز ذلك مطلقا . وإذا ثبت كونه مكروها أو خلاف الأولى فالمستحب في صفة الجلوس للأكل أن يكون جاثيا على ركبتيه وظهور قدميه أو ينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى . واستثنى الغزالي من كراهة الأكل مضطجعا أكل البقل . واختلف في علة الكراهة ، وأقوى ما ورد في ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي قال : كانوا يكرهون أن يأكلوا تكأة مخافة أن تعظم بطونهم ، وإلى ذلك يشير بقية ما ورد من الأخبار . ووجه الكراهة فيه ظاهر ، وكذلك ما أشار إليه ابن الأثير من جهة الطب .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية