الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب صفة الأذان

                                                                                                                                            490 - ( عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال : { لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب بالناقوس وهو له كاره لموافقته النصارى طاف بي من الليل طائف وأنا نائم : رجل عليه ثوبان أخضران ، وفي يده ناقوس يحمله قال : فقلت : يا عبد الله أتبيع الناقوس ، قال : وما تصنع به ؟ قال : قلت : ندعو به إلى الصلاة ، قال : أفلا أدلك على خير من ذلك ؟ فقلت : بلى ، قال : تقول : الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله الله أكبر لا إله إلا الله . قال : ثم استأخر غير بعيد قال : ثم تقول إذا أقمت الصلاة : الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله . قال : فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذه الرؤيا حق إن شاء الله ثم أمر بالتأذين فكان بلال مولى أبي بكر يؤذن بذلك ويدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة [ ص: 44 ] قال : فجاءه فدعاه ذات غداة إلى الفجر فقيل له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم فصرخ بلال بأعلى صوته الصلاة خير من النوم . قال سعيد بن المسيب : فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر } رواه أحمد وأبو داود من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه ، وفيه { فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت ، فقال : إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فإنه أندى صوتا منك قال : فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال : فسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول : والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلله الحمد } . وروى الترمذي هذا الطرف منه بهذه الطريق وقال : حديث عبد الله بن زيد حديث حسن صحيح ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الحديث أخرجه أيضا من الطريقة الأولى الحاكم ، وقال : هذه أمثل الروايات في قصة عبد الله بن زيد لأن سعيد بن المسيب قد سمع من عبد الله بن زيد ، ورواه يونس ومعمر وشعيب وابن إسحاق عن الزهري ، ومتابعة هؤلاء لمحمد بن إسحاق عن الزهري ترفع احتمال التدليس الذي تحتمله عنعنة ابن إسحاق .

                                                                                                                                            وأخرجه أيضا من الطريقة الثانية ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبيهقي وابن ماجه . قال محمد بن يحيى الذهلي : ليس في أخبار عبد الله بن زيد أصح من حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي يعني هذا ; لأن محمدا قد سمع من أبيه عبد الله بن زيد وقال ابن خزيمة في صحيحه : هذا حديث صحيح ثابت من جهة النقل ; لأن محمدا سمع من أبيه وابن إسحاق سمع من التيمي وليس هذا مما دلسه . وقد صحح هذه الطريقة البخاري فيما حكاه الترمذي في العلل عنه ، وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود من حديث محمد بن عمرو الواقفي عن محمد بن عبد الله عن عمه عبد الله بن زيد ومحمد بن عمرو ضعيف ، واختلف عليه فيه فقيل : عن محمد بن عبد الله .

                                                                                                                                            وقيل : عبد الله بن محمد قال ابن عبد البر : إسناده حسن من حديث الإفريقي قال الحاكم : وأما أخبار الكوفة في هذه القصة يعني في تثنية الأذان والإقامة فمدارها على حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى ، واختلف عليه فيه فمنهم من قال عن معاذ بن جبل . ومنهم من قال عن عبد الله بن زيد . ومنهم من قال غير ذلك . الحديث فيه تربيع التكبير وقد ذهب إلى ذلك الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وجمهور العلماء كما قال النووي . ومن أهل البيت الناصر والمؤيد بالله والإمام يحيى واحتجوا بهذا الحديث فإن المشهور فيه التربيع ، وبحديث أبي محذورة الآتي . وبأن التربيع عمل أهل مكة وهي مجمع المسلمين في المواسم [ ص: 45 ] وغيرها ، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة وغيرهم

                                                                                                                                            وذهب مالك وأبو يوسف ومن أهل البيت زيد بن علي والصادق والهادي والقاسم إلى تثنيته محتجين بما وقع في بعض روايات هذا الحديث من التثنية . وبحديث أبي محذورة الآتي في رواية مسلم عنه وفيه : " إن الأذان مثنى فقط " وبأن التثنية عمل أهل المدينة وهم أعرف بالسنن . وبحديث أمره صلى الله عليه وسلم لبلال بتشفيع الأذان وإيتار الإقامة وسيأتي . والحق أن روايات التربيع أرجح لاشتمالها على الزيادة ، وهي مقبولة لعدم منافاتها وصحة مخرجها .

                                                                                                                                            وفي الحديث ذكر الشهادتين مثنى مثنى ، وقد اختلف الناس في ذلك فذهب أبو حنيفة والكوفيون والهادوية والناصرية إلى عدم استحباب الترجيع تمسكا بظاهر الحديث ، والترجيع : هو العود إلى الشهادتين مرتين مرتين برفع الصوت بعد قولها مرتين مرتين بخفض الصوت ، ذكر ذلك النووي في شرح مسلم .

                                                                                                                                            وفي كلام الرافعي ما يشعر بأن الترجيع اسم للمجموع من السر والجهر .

                                                                                                                                            وفي شرح المهذب والتحقيق والدقائق والتحرير أنه اسم للأول .



                                                                                                                                            وذهب الشافعي ومالك وأحمد وجمهور العلماء كما قال النووي وإلى أن الترجيع في الأذان ثابت لحديث أبي محذورة الآتي ، وهو حديث صحيح مشتمل على زيادة غير منافية فيجب قبولها ، وهو أيضا متأخر عن حديث عبد الله بن زيد . قال في شرح مسلم : إن حديث أبي محذورة سنة ثمان من الهجرة بعد حنين ، وحديث عبد الله بن زيد في أول الأمر ويرجحه أيضا عمل أهل مكة والمدينة به .

                                                                                                                                            قال النووي : وقد ذهب جماعة المحدثين . وغيرهم إلى التخيير بين فعل الترجيح وتركه .

                                                                                                                                            وفيه التثويب في صلاة الفجر لقول سعيد بن المسيب فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر يعني قول بلال { الصلاة خير من النوم } وزاد ابن ماجه " فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي إسناده ضعف جدا .

                                                                                                                                            وروى أيضا ابن ماجه وأحمد والترمذي من حديث بلال بلفظ : { لا تثويب في شيء من الصلاة إلا في صلاة الفجر } وفيه أبو إسماعيل الملائي وهو ضعيف مع انقطاعه بين عبد الرحمن بن أبي ليلى وبلال وقال ابن السكن : لا يصح إسناده . ورواه الدارقطني من طريق أخرى ، وفيه أبو سعيد البقال وهو نحو أبي إسماعيل في الضعف وبيان الانقطاع بين ابن أبي ليلى وبلال أن ابن أبي ليلى مولده سنة سبع عشرة ، ووفاة بلال سنة عشرين أو إحدى وعشرين بالشام وكان مرابطا بها قبل ذلك من أوائل فتوحها فهو شامي ، وابن أبي ليلى كوفي ، فكيف يسمع منه مع حداثة السن وتباعد الديار .

                                                                                                                                            وقد روي إثبات التثويب من حديث أبي محذورة قال : { علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان وقال : إذا كنت في أذان الصبح فقلت حي على الفلاح فقل الصلاة خير من النوم } أخرجه أبو داود وابن حبان مطولا من حديثه وفيه هذه الزيادة ، وفي إسناده محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة وهو غير معروف الحال والحارث بن عبيد وفيه مقال . وذكره [ ص: 46 ] أبو داود من طريق أخرى عن أبي محذورة وصححه ابن خزيمة من طريق ابن جريج . ورواه النسائي من وجه آخر وصححه أيضا ابن خزيمة ورواه بقي بن مخلد وروى التثويب أيضا الطبراني والبيهقي بإسناد حسن عن ابن عمر بلفظ : { كان الأذان بعد حي على الفلاح الصلاة خير من النوم مرتين } ، قال اليعمري : وهذا إسناد صحيح .

                                                                                                                                            وروى ، ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي عن أنس أنه قال : من السنة إذا قال المؤذن في الفجر حي على الفلاح قال الصلاة خير من النوم ، قال ابن سيد الناس اليعمري : وهو إسناد صحيح .

                                                                                                                                            وفي الباب عن عائشة عند ابن حبان وعن نعيم النحام عند البيهقي ، وقد ذهب إلى القول بشرعية التثويب عمر بن الخطاب وابنه وأنس والحسن البصري وابن سيرين والزهري ومالك والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وأصحاب الشافعي وهو رأي الشافعي في القديم ، ومكروه عنده في الجديد ، وهو مروي عن أبي حنيفة

                                                                                                                                            واختلفوا في محله فالمشهور أنه في صلاة الصبح فقط ، وعن النخعي وأبي يوسف أنه سنة في كل الصلوات ، وحكى القاضي أبو الطيب عن الحسن بن صالح أنه يستحب في أذان العشاء ، وروي عن الشعبي وغيره أنه يستحب في العشاء والفجر والأحاديث لم ترد بإثباته إلا في صلاة الصبح لا في غيرها فالواجب الاقتصار على ذلك ، والجزم بأن فعله في غيرها بدعة كما صرح بذلك ابن عمر وغيره ، وذهبت العترة والشافعي في أحد قوليه إلى أن التثويب بدعة ، قال في البحر : أحدثه عمر ، فقال ابنه : هذه بدعة

                                                                                                                                            وعن علي عليه السلام حين سمعه : لا تزيدوا في الأذان ما ليس منه ثم قال بعد أن ذكر حديث أبي محذورة وبلال قلنا : لو كان لما أنكره علي وابن عمر وطاوس سلمنا فأمرنا به إشعارا في حال لا شرعا جمعا بين الآثار انتهى .

                                                                                                                                            وأقول : قد عرفت مما سلف رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأمر به على جهة العموم من دون تخصيص بوقت دون وقت وابن عمر لم ينكر مطلق التثويب بل أنكره في صلاة الظهر ورواية الإنكار عن علي عليه السلام بعد صحتها لا تقدح في مروي غيره ، لأن المثبت أولى ومن علم حجة ، والتثويب زيادة ثابتة فالقول بها لازم .

                                                                                                                                            .


                                                                                                                                            والحديث ليس فيه ذكر حي على خير العمل ، وقد ذهبت العترة إلى إثباته ، وأنه بعد قول المؤذن : حي على الفلاح ، قالوا : يقول مرتين : حي على خير العمل ، ونسبه المهدي في البحر إلى أحد قولي الشافعي وهو خلاف ما في كتب الشافعية فإنا لم نجد في شيء منها هذه المقالة بل خلاف ما في كتب أهل البيت قال في الانتصار : إن الفقهاء الأربعة لا يختلفون في ذلك يعني في أن حي على خير العمل ليس من ألفاظ الأذان ، وقد أنكر هذه الرواية الإمام عز الدين في شرح البحر وغيره ممن له اطلاع على كتب الشافعية .

                                                                                                                                            احتج القائلون بذلك بما في كتب أهل البيت كأمالي أحمد بن عيسى والتجريد والأحكام وجامع آل محمد من إثبات ذلك مسندا [ ص: 47 ] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الأحكام : وقد صح لنا أن حي على خير العمل كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن بها ولم تطرح إلا في زمن عمر ، وهكذا قال الحسن بن يحيى روي ذلك عنه في جامع آل محمد ، وبما أخرج البيهقي في سننه الكبرى بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر أنه كان يؤذن بحي على خير العمل أحيانا وروى فيها عن علي بن الحسين أنه قال هو الأذان الأول وروى المحب الطبري في أحكامه عن زيد بن أرقم أنه أذن بذلك ، قال المحب الطبري : رواه ابن حزم ورواه سعيد بن منصور في سننه عن أبي أمامة بن سهل البدري ، ولم يرو ذلك من طريق غير أهل البيت مرفوعا .

                                                                                                                                            وقول بعضهم : وقد صحح ابن حزم والبيهقي والمحب الطبري وسعيد بن منصور ثبوت ذلك عن علي بن الحسين وابن عمر وأبي أمامة بن سهل موقوفا ومرفوعا ليس بصحيح اللهم إلا أن يريد بقوله مرفوعا قول علي بن الحسين هو الأذان الأول ، ولم يثبت عن ابن عمر وأبي أمامة الرفع في شيء من كتب الحديث وأجاب الجمهور عن أدلة إثباته بأن الأحاديث الواردة بذكر ألفاظ الأذان في الصحيحين وغيرهما من دواوين الحديث ليس في شيء منها ما يدل على ثبوت ذلك ، قالوا : وإذا صح ما روي من أنه الأذان الأول فهو منسوخ بأحاديث الأذان لعدم ذكره فيها . وقد أورد البيهقي حديثا في نسخ ذلك ، ولكنه من طريق لا يثبت النسخ بمثلها .

                                                                                                                                            وفي الحديث إفراد الإقامة إلا التكبير في أولها وآخرها وقد قامت الصلاة ، وقد اختلف الناس في ذلك وسنذكر ذلك ، وما هو الحق في شرح حديث أنس الآتي بعد هذا . قوله في الحديث : ( أن يضرب بالناقوس ) هو الذي تضرب به النصارى لأوقات صلاتهم ، وجمعه نواقيس ، والنقس ضرب الناقوس

                                                                                                                                            قوله : ( حي على الصلاة حي على الفلاح ) اسم فعل معناه أقبلوا إليها وهلموا إلى الفوز والنجاة وفتحت الياء لسكونها وسكون الياء السابقة المدغمة . قوله : ( فإنه أندى صوتا منك ) أي أحسن صوتا منك .

                                                                                                                                            وفيه دليل استحباب اتخاذ مؤذن حسن الصوت .

                                                                                                                                            وقد أخرج الدارمي وأبو الشيخ بإسناد متصل بأبي محذورة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بنحو عشرين رجلا فأذنوا فأعجبه صوت أبي محذورة فعلمه الأذان } . وأخرجه أيضا ابن حبان من طريق أخرى . ورواه ابن خزيمة في صحيحه قال الزبير بن بكار : كان أبو محذورة أحسن الناس صوتا وأذانا . ولبعض شعراء قريش في أذان أبي محذورة

                                                                                                                                            أما ورب الكعبة المستوره وما تلا محمد من سوره والنغمات من أبي محذوره
                                                                                                                                            لأفعلن فعلة مذكوره

                                                                                                                                            وفي رواية للترمذي بلفظ : { فقم مع بلال فإنه أندى أو أمد صوتا منك فألق عليه [ ص: 48 ] ما قيل لك } والمراد بقوله : أو أمد صوتا منك أي أرفع صوتا منك ، وفيه استحباب رفع الصوت بالأذان وسيذكر المصنف لذلك بابا بعد هذا الباب .

                                                                                                                                            .


                                                                                                                                            491 - ( وعن أنس قال : { أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا الإقامة } . رواه الجماعة ) . وليس فيه للنسائي والترمذي وابن ماجه إلا الإقامة .

                                                                                                                                            قوله : ( أمر بلال ) هو في معظم الروايات على البناء للمفعول . وقد اختلف أهل الأصول والحديث في اقتضاء هذه الصيغة للرفع ، والمختار عند محققي الطائفتين أنها تقتضيه ; لأن الظاهر أن المراد بالآمر من له الأمر الشرعي الذي يلزم اتباعه ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم لا سيما في أمور العبادة ، فإنها إنما تؤخذ عن توقيف ، ويؤيد هذا ما وقع في رواية روح عن عطاء : " فأمر بلالا " بالنصب ، وفاعل أمر هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصرح من ذلك رواية النسائي وغيره عن قتيبة عن عبد الوهاب بلفظ : " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا "

                                                                                                                                            قال الحاكم : صرح برفعه إمام الحديث بلا مدافعة قتيبة ، قال الحافظ : لم يتفرد به ، فقد أخرجه أبو عوانة من طريق عبدان المروزي ويحيى بن معين كلاهما عن عبد الوهاب ، وطريق يحيى عند الدارقطني أيضا ، ولم يتفرد عبد الوهاب . وقد رواه البلاذري من طريق أبي شهاب الحناط عن أبي قلابة ، وقضية وقوع ذلك عقب المشاورة في أمر النداء ، والآمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ومن غير شك .

                                                                                                                                            وقد روى البيهقي فيه بالسند الصحيح عن أنس : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة } لا ما حكي عن بعضهم من أن الآمر لبلال بذلك كان من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ من المنقول أن بلالا لم يؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لأبي بكر ، وقيل : لم يؤذن لأحد بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة بالشام

                                                                                                                                            قوله : ( أن يشفع الأذان ) بفتح أوله وفتح الفاء أي يأتي بألفاظه شفعا ، وهو مفسر بقوله : " مثنى مثنى " . قال الحافظ : لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة فيحمل قوله : مثنى على ما سواها انتهى . فتكون أحاديث تشفيع الأذان وتثنيته مخصصة بالأحاديث التي ذكرت فيها كلمة التوحيد مرة واحدة ، كحديث عبد الله بن زيد ونحوه

                                                                                                                                            قوله : ( إلا الإقامة ) ادعى ابن منده والأصيلي أن قوله : " إلا الإقامة " من كلام أيوب وليس من الحديث ، وفيما قالاه نظر ; لأن عبد الرزاق رواه عن معمر عن أيوب بسنده متصلا بالخبر مفسرا ، وكذا أبو عوانة في صحيحه والسراج في مسنده ، والأصل أن كل ما كان من الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه ولا دليل .

                                                                                                                                            وفي رواية أيوب زيادة من حافظ [ ص: 49 ] فلا يقدح في صحتها عدم ذكر خالد الحذاء لها ، وقد ثبت تكرير لفظ : قد قامت الصلاة في حديث ابن عمر مرفوعا وسيأتي . وقد استشكل عدم استثناء التكبير في الإقامة فإنه يثنى كما تقدم في حديث عبد الله بن زيد . وأجيب بأنه وتر بالنسبة إلى تكبير الأذان فإن التكبير في أول الأذان أربع ، وهذا إنما يتم في تكبير أول الأذان لا في آخره كما قال الحافظ وأنت خبير بأن ترك استثنائه في هذا الحديث لا يقدح في ثبوته لأن روايات التكرير زيادة مقبولة

                                                                                                                                            والحديث يدل على وجوب الأذان والإقامة ، وعلى أن الأذان مثنى ، وقد تقدم الكلام على ذلك . ويدل على إفراد الإقامة إلا الإقامة ، وقد اختلف الناس في ذلك فذهب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء إلى أن ألفاظ الإقامة إحدى عشرة كلمة كلها مفردة إلا التكبير في أولها وآخرها ، ولفظ : " قد قامت الصلاة " فإنها مثنى مثنى واستدلوا بهذا الحديث ، وحديث ابن عمر الآتي ، وحديث عبد الله بن زيد السابق . قال الخطابي : مذهب جمهور العلماء ، والذي جرى به العمل في الحرمين والحجاز والشام واليمن ومصر والمغرب إلى أقصى بلاد الإسلام أن الإقامة فرادى ، قال أيضا : مذهب كافة العلماء أنه يكرر قوله : قد قامت الصلاة إلا مالكا فإن المشهور عنه أنه لا يكررها

                                                                                                                                            وذهب الشافعي في قديم قوليه إلى ذلك ، قال النووي . ولنا قول شاذ أنه يقول في التكبير الأول الله أكبر مرة ، وفي الأخير مرة ويقول قد قامت الصلاة مرة . قال ابن سيد الناس : وقد ذهب إلى القول بأن الإقامة إحدى عشرة كلمة عمر بن الخطاب وابنه وأنس والحسن البصري والزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور ويحيى بن يحيى وداود وابن المنذر . قال البيهقي وممن قال بإفراد الإقامة سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز . قال البغوي : هو قول أكثر العلماء

                                                                                                                                            وذهبت الحنفية والهادوية والثوري وابن المبارك وأهل الكوفة إلى أن ألفاظ الإقامة مثل الأذان عندهم مع زيادة قد قامت الصلاة مرتين ، واستدلوا بما في رواية من حديث عبد الله بن زيد عند الترمذي وأبي داود بلفظ : { كان أذان رسول الله صلى الله عليه وسلم شفعا شفعا في الأذان والإقامة } وأجيب عن ذلك بأنه منقطع كما قال الترمذي .

                                                                                                                                            وقال الحاكم والبيهقي : الروايات عن عبد الله بن زيد في هذا الباب كلها منقطعة ، وقد تقدم ما في سماع ابن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد ويجاب عن هذا الانقطاع بأن الترمذي قال بعد إخراج هذا الحديث : عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد ما لفظه ، وقال شعبة : عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن زيد رأى الأذان في المنام ، قال الترمذي : وهذا أصح انتهى

                                                                                                                                            وقد روى ابن أبي ليلى عن جماعة من الصحابة منهم عمر وعلي وعثمان وسعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب والمقداد وبلال وكعب بن عجرة وزيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان [ ص: 50 ] وصهيب وخلق يطول ذكرهم وقال : أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم من الأنصار فلا علة للحديث ، لأنه على الرواية عن عبد الله بدون توسيط الصحابة مرسل عن الصحابة وهو في حكم المسند وعلى روايته عن الصحابة عنه مسند ومحمد بن عبد الرحمن وإن كان بعض أهل الحديث يضعفه فمتابعة الأعمش إياه عن عمرو بن مرة ومتابعة شعبة كما ذكر ذلك الترمذي مما يصحح خبره ، وإن خالفاه في الإسناد وأرسلا فهي مخالفة غير قادحة

                                                                                                                                            واستدلوا أيضا بما رواه الحاكم والبيهقي في الخلافيات والطحاوي من رواية سويد بن غفلة أن بلالا كان يثني الأذان والإقامة وادعى الحاكم فيه الانقطاع . قال الحافظ : ولكن في رواية الطحاوي سمعت بلالا ، ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن جبر بن علي عن شيخ يقال له الحفص عن أبيه عن جده ، وهو سعد القرظ قال : أذن بلال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أذن لأبي بكر في حياته ولم يؤذن في زمان عمر ، وسويد بن غفلة هاجر في زمن أبي بكر . وأما ما رواه أبو داود من أن بلالا ذهب إلى الشام في حياة أبي بكر فكان بها حتى مات فهو مرسل ، وفي إسناده عطاء الخراساني وهو مدلس

                                                                                                                                            وروى الطبراني في مسند الشاميين من طريق جنادة بن أبي أمية عن بلال أنه كان يجعل الأذان والإقامة مثنى مثنى ، وفي إسناده ضعف قال الحافظ : وحديث أبي محذورة في تثنية الإقامة مشهور عند النسائي وغيره انتهى .

                                                                                                                                            وحديث أبي محذورة حديث صحيح ساقه الحازمي في الناسخ والمنسوخ وذكر فيه الإقامة مرتين مرتين ، وقال : هذا حديث حسن على شرط أبي داود والترمذي والنسائي وسيأتي ما أخرجه عنه الخمسة : { أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة } وهو حديث صححه الترمذي وغيره ، وهو متأخر عن حديث بلال الذي فيه الأمر بإيتار الإقامة لأنه بعد فتح مكة لأن أبا محذورة من مسلمة الفتح ، وبلالا أمر بإفراد الإقامة أول ما شرع الأذان فيكون ناسخا

                                                                                                                                            وقد روى أبو الشيخ أن بلالا أذن بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مرتين مرتين ، وأقام مثل ذلك ، إذا عرفت هذا تبين لك أن أحاديث تثنية الإقامة صالحة للاحتجاج بها لما أسلفناه ، وأحاديث إفراد الإقامة ، وإن كانت أصح منها لكثرة طرقها وكونها في الصحيحين لكن أحاديث التثنية مشتملة على الزيادة ، فالمصير إليها لازم لا سيما مع تأخر تاريخ بعضها كما عرفناك .

                                                                                                                                            وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز إفراد الإقامة وتثنيتها ، قال أبو عمر بن عبد البر : ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وحملوه على الإباحة والتخيير ، قالوا : كل ذلك جائز ; لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم جميع ذلك وعمل به أصحابه فمن شاء قال الله أكبر أربعا في أول الأذان ومن شاء ثنى الإقامة ومن شاء أفردها إلا قوله قد قامت الصلاة فإن ذلك [ ص: 51 ] مرتان على كل حال انتهى

                                                                                                                                            وقد أجاب القائلون بإفراد الإقامة على حديث أبي محذورة بأجوبة منها : أن من شرط الناسخ أن يكون أصح سندا وأقوم قاعدة ، وهذا ممنوع ، فإن المعتبر في الناسخ مجرد الصحة لا الأصحية ومنها أن جماعة من الأئمة ذهبوا إلى أن هذه اللفظة في تثنية الإقامة غير محفوظة ، ورووا من طريق أبي محذورة { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة } كما ذكر ذلك الحازمي في الناسخ والمنسوخ ، وأخرجه البخاري في تاريخه والدارقطني وابن خزيمة ، وهذا الوجه غير نافع . لأن القائلين بأنها غير محفوظة ، غاية ما اعتذروا به عدم الحفظ وقد حفظ غيرهم من الأئمة كما تقدم ومن علم حجة على من لا يعلم

                                                                                                                                            وأما رواية الإيتار إقامة عن أبي محذورة فليست كروايته التشفيع على أن الاعتماد على الرواية المشتملة على الزيادة . ومن الأجوبة أن تثنية الإقامة لو فرض أنها محفوظة ، وأن الحديث بها ثابت لكانت منسوخة ، فإن أذان بلال هو آخر الأمرين لأن { النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد من حنين ورجع إلى المدينة أقر بلالا } على أذانه وإقامته . قالوا : وقد قيل لأحمد بن حنبل : أليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبد الله بن زيد لأن حديث أبي محذورة بعد فتح مكة ، قال : أليس قد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأقر بلالا على أذان عبد الله بن زيد وهذا أنهض ما أجأبوا به ، ولكنه متوقف على نقل صحيح أن بلالا أذن بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، وأفرد الإقامة ، ومجرد قول أحمد بن حنبل لا يكفي ، فإن ثبت ذلك كان دليلا لمذهب من قال بجواز الكل ، ويتعين المصير إليها ; لأن فعل كل واحد من الأمرين عقب الآخر مشعر بجواز الجميع لا بالنسخ .

                                                                                                                                            492 - ( وعن ابن عمر قال : { إنما كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين ، والإقامة مرة مرة غير أنه يقول : قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، وكنا إذا سمعنا الإقامة توضأنا ثم خرجنا إلى الصلاة } . رواه أحمد وأبو داود والنسائي ) . الحديث أخرجه أيضا الشافعي وأبو عوانة والدارقطني وابن خزيمة وابن حبان والحاكم ، وفي إسناده أبو جعفر المؤذن قال شعبة : لا يحفظ لأبي جعفر غير هذا الحديث . وقال ابن حبان اسمه محمد بن مسلم بن مهران .

                                                                                                                                            وقال الحاكم : اسمه عمير بن يزيد بن حبيب الخطمي . قال الحافظ : ووهم الحاكم في ذلك . ورواه أبو عوانة والدارقطني من حديث سعيد بن المغيرة عن عيسى بن يونس عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال الحافظ : وأظن سعيدا وهم فيه ، وإنما رواه عيسى عن شعبة كما تقدم ، لكن سعيد وثقه أبو حاتم ورواه ابن ماجه من حديث سعد القرظ مرفوعا ، { كان أذان بلال مثنى مثنى وإقامته [ ص: 52 ] مفردة } . وعن أبي رافع نحوه ، وهما ضعيفان ، وقد صرح اليعمري في شرح الترمذي أن حديث ابن عمر إسناده صحيح . والحديث يدل على أن الأذان مثنى والإقامة مفردة إلا الإقامة . وقد تقدم البحث عن ذلك .

                                                                                                                                            493 - ( وعن أبي محذورة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه هذا الأذان : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله ثم يعود فيقول : أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين ، حي على الصلاة مرتين ، حي على الفلاح مرتين ، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله } ، رواه مسلم والنسائي ، وذكر التكبير في أوله أربعا . وللخمسة عن أبي محذورة { أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة } . قال الترمذي : حديث حسن صحيح ) . الرواية الأولى أخرجها أيضا بتربيع التكبير في أوله الشافعي وأبو داود وابن ماجه وابن حبان .

                                                                                                                                            وقال ابن القطان : الصحيح في هذا تربيع التكبير ، وبه يصح كون الأذان تسع عشرة كلمة كما في الرواية الثانية مضموما إلى تربيع التكبير الترجيع قال الحافظ حاكيا عن ابن القطان : وقد وقع في بعض روايات مسلم بتربيع التكبير ، وهي التي ينبغي أن يعد في الصحيح ا هـ . وقد رواه أبو نعيم في المستخرج والبيهقي بتربيع التكبير ، وقال بعده : أخرجه مسلم عن إسحاق ، وكذلك أخرجه أبو عوانة في مستخرجه من طريق ابن المديني عن معاذ . والرواية الثانية أخرجها أيضا الدارمي والدارقطني والحاكم في مستدركه والبيهقي وتكلم عليه بأوجه من التضعيف ردها ابن دقيق العيد في الإمام وصحح الحديث ، وأخرجه أيضا الطبراني

                                                                                                                                            قوله : ( تسع عشرة كلمة ) لأن التكبير في أوله مربع ، والترجيع في الشهادتين يصير كل واحدة منهما أربعة ألفاظ والحيعلتين أربع كلمات ، والتكبير كلمتان ، وكلمة التوحيد في آخره . قوله : ( سبع عشرة كلمة ) بتربيع التكبير في أول الإقامة وترك الترجيع وزيادة قد قامت الصلاة مرتين وباقي ألفاظها كالأذان فتكون الإقامة ذلك المقدار ، والحديث يدل على تربيع التكبير والترجيع وتربيع تكبير الإقامة وتثنية باقي ألفاظها ، وقد تقدم أن حديث أبي محذورة راجع ; لأنه متأخر ومشتمل على الزيادة لا سيما مع كون النبي صلى الله عليه وسلم والذي لقنه إياه [ ص: 53 ]

                                                                                                                                            494 - ( وعن أبي محذورة قال : { قلت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم علمني سنة الأذان فعلمه وقال : فإن كانت صلاة الصبح قلت : الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله } . رواه أحمد وأبو داود ) . الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والنسائي وصححه ابن خزيمة ، وفي إسناده محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة والحارث بن عبيد والأول غير معروف ، والثاني فيه مقال ، ولكنه قد روي من طريق أخرى ، وقد قدمنا الكلام على الحديث وعلى فقهه في شرح حديث عبد الله بن زيد فليرجع إليه




                                                                                                                                            الخدمات العلمية