الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب الأذان في أول الوقت وتقديمه عليه في الفجر خاصة

                                                                                                                                            498 - ( عن جابر بن سمرة قال : { كان بلال يؤذن إذا زالت الشمس لا يخرم ثم لا يقيم حتى يخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فإذا خرج أقام حين يراه } . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( لا يخرم ) أي لا يترك شيئا من ألفاظه . الحديث فيه المحافظة على الأذان عند دخول وقت الظهر بدون تقديم ولا تأخير وهكذا سائر الصلوات إلا الفجر لما سيأتي .

                                                                                                                                            وفيه أيضا أن المقيم لا يقيم إلا إذا أراد الإمام الصلاة ، وقد أخرج ابن عدي من حديث أبي هريرة مرفوعا : { المؤذن أملك بالأذان ، والإمام أملك بالإقامة } وضعفه ، ولعل تضعيفه له لأن في إسناده شريكا القاضي . وقد أخرج البيهقي نحوه عن علي رضي الله عنه من قوله : وقال : ليس بمحفوظ ، ورواه أبو الشيخ من طريق أبي الجوزاء عن ابن عمه وفيه معارك وهو ضعيف . ويعارض حديث الباب وما في معناه ما عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي بلفظ : أنه قال : { إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني } أي خرجت لأنه يدل على أن المقيم شرع في الإقامة قبل خروجه

                                                                                                                                            ويمكن الجمع بين الحديثين بأن بلالا كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وسلم فيشرع في الإقامة عند أول رؤيته قبل أن يراه غالب الناس ، ثم إذا رأوه قاموا ، يشهد لهذا ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب : { أن الناس كانوا ساعة يقول المؤذن : الله أكبر يقومون إلى الصلاة فلا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم مقامه حتى تعتدل الصفوف } وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود ومستخرج أبي عوانة : { أنهم كانوا يعدلون الصفوف قبل خروجه صلى الله عليه وسلم } وفي حديث أبي قتادة { أنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة ، ولو لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم } فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم الانتظار . قال المصنف [ ص: 58 ] رحمه الله تعالىبعد ذكر حديث الباب : وفيه أن الفريضة تغني عن تحية المسجد انتهى .

                                                                                                                                            499 - ( وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن - أو قال : ينادي بليل - ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم } . رواه الجماعة إلا الترمذي ) . قوله : ( أحدكم ) في رواية للبخاري " أحدا منكم " شك من الراوي وكلاهما يفيد العموم

                                                                                                                                            قوله : ( من سحوره ) بفتح أوله اسم لما يؤكل في السحر . ويجوز الضم هو اسم الفعل

                                                                                                                                            قوله : ( ليرجع ) بفتح الياء وكسر الجيم المخففة يستعمل هذا لازما ومتعديا ، تقول : رجع زيد ورجعت زيدا ، ولا يقال في المتعدي بالتثقيل ، ومن رواه بالضم والتثقيل فقد أخطأ لأنه يصير من الترجيع وهو الترديد وليس مرادا هنا ، وإنما معناه يرد القائم : أي المجتهد إلى راحته ليقوم إلى صلاة الصبح نشيطا ، أو يتسحر إن كان له حاجة إلى الصيام ويوقظ النائم ليتأهب للصلاة بالغسل والوضوء . والحديث يدل على جواز الأذان قبل دخول الوقت في صلاة الفجر خاصة ، وقد ذهب إلى مشروعيته الجمهور مطلقا

                                                                                                                                            وخالف في ذلك الثوري وأبو حنيفة ومحمد والهادي والقاسم والناصر وزيد بن علي ، قال الشافعي ومالك وأحمد وأصحابهم : إنه يكتفي به للصلاة ، وقال ابن المنذر وطائفة من أهل الحديث والغزالي : إنه لا يكتفي به ، وادعى بعضهم أنه لم يرد في شيء من الحديث بما يدل على الاكتفاء ، وتعقب بحديث الباب ، وأجيب بأنه مسكوت عنه وعلى التنزل فمحله ما إذا لم يرد نطق بخلافه ، وههنا قد ورد حديث ابن عمر وعائشة الآتي ، وهو يدل على عدم الاكتفاء ، نعم حديث زياد بن الحارث عند أبي داود يدل على الاكتفاء ، فإن فيه أنه أذن قبل الفجر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأنه استأذنه في الإقامة فمنعه إلى أن طلع الفجر فأمره ، لكن في إسناده ضعف كما قال الحافظ . وأيضا فهي واقعة عين وكانت في سفر ، ومن ثم قال القرطبي : إنه مذهب واضح

                                                                                                                                            ويدل أيضا على عدم الاكتفاء أن الأذان المذكور قد بين النبي صلى الله عليه وسلم الغرض به فقال : " ليرجع قائمكم " الحديث ، فهو لهذه الأغراض المذكورة لا للإعلام بالوقت ، والأذان هو الإعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة ، والأذان قبل الوقت ليس إعلاما بالوقت ، وتعقب بأن الإعلام بالوقت أعم من أن يكون إعلاما بأنه دخل أو قارب أن يدخل : واحتج المانعون من الأذان قبل دخول الوقت بحجج منها قوله صلى الله عليه وسلم لبلال : { لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر ، ومد يديه عرضا } أخرجه أبو داود ، وبما أخرجه أيضا من حديث ابن عمر { أن بلالا أذن قبل [ ص: 59 ] طلوع الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي ألا إن العبد نام }

                                                                                                                                            قالوا : فوجب تأويل حديث الباب بما قال بعض الحنفية : إن النداء قبل الفجر لم يكن بألفاظ الأذان ، وإنما كان تذكيرا كما يقع للناس اليوم ، وأجيب عن الاحتجاج بالحديثين المذكورين بأن الأول منهما لا ينتهض لمعارضة ما في الصحيحين لا سيما مع إشعار الحديث بالاعتياد . وأما الثاني فلا حجة فيه لأنه قد صرح بأنه موقوف أكابر الأئمة كأحمد والبخاري والذهلي وأبي داود وأبي حاتم والدارقطني والأثرم والترمذي ، وجزموا بأن حمادا أخطأ في رفعه وأن الصواب وقفه ، وأما التأويل المذكور فقال الحافظ في الفتح : إنه مردود لأن الذي يصنعه الناس اليوم محدث قطعا ، تضافرت الأحاديث على التعبير بلفظ الأذان قطعا فحمله على معناه الشرعي مقدم ، ولأن الأذان الأول لو كان بألفاظ مخصوصة لما التبس على السامعين ، والحديث ليس فيه تعيين الوقت الذي كان بلال يؤذن فيه

                                                                                                                                            وقد اختلف من أي وقت يشرع في ذلك فقيل : إنه يشرع وقت السحر ورجحه جماعة من أصحاب الشافعي . وقيل : إنه يشرع من النصف الأخير ، ورجحه النووي وتأول ما خالفه ، وقيل : يشرع للسبع الأخير في الشتاء وفي الصيف لنصف السبع قال الجويني . وقيل : وقته الليل جميعه ذكره صاحب العمدة وكأن مسنده إطلاق لفظ بليل . وقيل : بعد آخر اختيار العشاء ، وقد ورد ما يشعر بتعيين الوقت الذي كان بلال يؤذن فيه ، وهو ما رواه النسائي والطحاوي من حديث عائشة " أنه لم يكن بين أذان بلال وابن أم مكتوم إلا أن يرقى هذا وينزل هذا " وكانا يؤذنان في بيت مرتفع ، كما أخرجه أبو داود ، فهذه الرواية تقيد إطلاق سائر الروايات

                                                                                                                                            ويؤيد هذا ما أخرجه الطحاوي أن بلالا وابن أم مكتوم كانا يقصدان وقتا واحدا فيخطئه بلال ويصيبه ابن أم مكتوم . وقد اختلف في أذان بلال بليل هل كان في رمضان فقط أم في جميع الأوقات ؟ فادعى ابن القطان الأول ، قال الحافظ : وفيه نظر . والحكمة في اختصاص صلاة الفجر لهذا من بين الصلوات ما ورد من الترغيب في الصلاة لأول الوقت ، والصبح يأتي غالبا عقيب النوم فناسب أن ينصب من يوقظ الناس قبل دخول وقتها ليتأهبوا أو يدركوا فضيلة الوقت .

                                                                                                                                            500 - ( وعن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ، ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا ، يعني معترضا } . رواه مسلم وأحمد والترمذي ولفظهما : { لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ، ولا الفجر المستطيل ، ولكن الفجر المستطير في الأفق } ) . [ ص: 60 ]

                                                                                                                                            501 - ( وعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم } . متفق عليه ولأحمد والبخاري { فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر } ولمسلم { ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا } ) .

                                                                                                                                            قوله : ( المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا ) صفة هذه الإشارة مبينة في صحيح مسلم في الصوم من حديث ابن مسعود بلفظ : { وليس أن يقول هكذا وهكذا وصوب يده رفعها حتى يقول هكذا وفرج بين أصبعيه وفي رواية ليس الذي يقول هكذا أو جمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض ، ولكن الذي يقول هكذا وجمع أصابعه ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه وفي رواية ليس الذي يقول هكذا ، ولكن يقول هكذا } وفسرها جرير بأن المراد أن الفجر هو المعترض وليس بالمستطيل ، والمعترض هو الفجر الصادق ، ويقال له : الثاني ، والمستطير بالراء ، وأما المستطيل باللام فهو الفجر الكاذب الذي يكون كذنب السرحان وفي البخاري من حديث ابن مسعود { وليس أن يقول الفجر أو الصبح وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل حتى يقول هكذا } وقال زهير بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى ثم أمرهما عن يمينه وشماله

                                                                                                                                            قوله : ( حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) في رواية للبخاري " حتى ينادي " وبتلك الزيادة أعني قوله : " فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر " أوردها في الصيام

                                                                                                                                            قوله : " ولمسلم لم يكن بينهما " هذه الزيادة ذكرها مسلم في الصيام من حديث ابن عمر ، وذكرها البخاري في الصيام من كلام القاسم ، قال الحافظ في أبواب الأذان من الفتح : ولا يقال : إنه مرسل ; لأن القاسم . تابعي فلم يدرك القصة المذكورة ، لأنه ثبت عند النسائي من رواية حفص بن غياث وعند الطحاوي من رواية يحيى بن القطان كلاهما عن عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة بلفظ : { ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا }

                                                                                                                                            قال النووي في شرح مسلم : قال العلماء : معناه أن بلالا كان يؤذن قبل الفجر ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه ، ثم يرقب الفجر فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر ابن أم مكتوم ، فيتأهب ابن أم مكتوم بالطهارة وغيرها ثم يرقى ويشرع في الأذان مع أول طلوع الفجر . والحديث يدل على جواز اتخاذ مؤذنين في مسجد واحد ، وأما الزيادة فليس في الحديث تعرض لها ، ونقل عن بعض أصحاب الشافعي أنه يكره الزيادة على أربعة ; لأن عثمان اتخذ أربعة ، ولم تنقل الزيادة عن أحد من الخلفاء الراشدين ، وجوزه بعضهم من غير كراهة ، [ ص: 61 ] قالوا : إذا جازت الزيادة لعثمان على ما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم جازت الزيادة لغيره . قال أبو عمر بن عبد البر : وإذا جاز اتخاذ مؤذنين جاز أكثر من هذا العدد إلا أن يمنع من ذلك ما يجب التسليم له ا هـ

                                                                                                                                            والمستحب أن يتعاقبوا واحدا بعد واحد كما اقتضاه الحديث إن اتسع الوقت لذلك كصلاة الفجر فإن تنازعوا في البدأة أقرع بينهم .

                                                                                                                                            وفي الحديث دليل جواز أذان الأعمى ، قال ابن عبد البر : وذلك عند أهل العلم إذا كان معه مؤذن آخر يهديه للأوقات ، وقد نقل عن ابن مسعود وابن الزبير كراهة أذان الأعمى . وعن ابن عباس كراهة إقامته وللحديثين المذكورين هاهنا فوائد وأحكام قد سبق بعضها في شرح حديث ابن مسعود . .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية