الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب نهي المتخلي عن استقبال القبلة واستدبارها

                                                                                                                                            84 - ( عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا جلس أحدكم لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها } . رواه أحمد ومسلم في رواية الخمسة إلا الترمذي قال : { إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروثة . [ ص: 103 ] والرمة } ، وليس لأحمد فيه الأمر بالأحجار ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الحديث أخرجه أيضا مالك . وفي الباب عن أبي أيوب في الصحيحين كما سيأتي ، وعن سلمان في مسلم . وعن عبد الله بن الحارث بن جزء في ابن ماجه وابن حبان . وعن معقل بن أبي معقل في أبي داود . وعن سهل بن حنيف في مسند الدارمي وزيادة ( لا يستطب بيمينه ) هي أيضا في المتفق عليه من حديث أبي قتادة بلفظ { فلا يمس ذكره بيمينه وإذا أتى الخلاء فلا يتمسح بيمينه } قال ابن منده : مجمع على صحته وزيادة وكان يأمر بثلاثة أحجار ، أخرجها أيضا ابن خزيمة وابن حبان والدارمي وأبو عوانة في صحيحه والشافعي من حديث أبي هريرة بلفظ { وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار } وأخرجها أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني وصححها من حديث عائشة بلفظ { فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطب بهن فإنها تجزي عنه } . وأخرجها مسلم من حديث سلمان ، وأبو داود من حديث خزيمة بن ثابت بلفظ : ( فليستنج بثلاث أحجار ) وعند مسلم من حديث سلمان بلفظ { أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نجتزئ بأقل من ثلاثة أحجار } .

                                                                                                                                            والحديث يدل على المنع من استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط ، وقد اختلف الناس في ذلك على أقوال . الأول : لا يجوز ذلك لا في الصحاري ولا في البنيان وهو قول أبي أيوب الأنصاري الصحابي ومجاهد وإبراهيم النخعي والثوري وأبي ثور وأحمد في رواية ، كذا قاله النووي في شرح مسلم ونسبه في البحر إلى الأكثر ورواه ابن حزم في المحكي عن أبي هريرة وابن مسعود وسراقة بن مالك وعطاء والأوزاعي ، وعن السلف من الصحابة والتابعين .

                                                                                                                                            المذهب الثاني : الجواز في الصحاري والبنيان وهو مذهب عروة بن الزبير وربيعة شيخ مالك وداود الظاهري ، كذا رواه النووي في شرح مسلم عنهم وهو مذهب الأمير الحسين .

                                                                                                                                            المذهب الثالث : أنه يحرم في الصحاري لا في العمران وإليه ذهب مالك والشافعي وهو مروي عن العباس بن عبد المطلب وعبد الله بن عمر والشعبي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه .

                                                                                                                                            صرح بذلك النووي في شرح مسلم أيضا وزاد في البحر عبد الله بن العباس ونسبه في الفتح إلى الجمهور .

                                                                                                                                            المذهب الرابع : أنه لا يجوز الاستقبال لا في الصحاري ولا في العمران ويجوز الاستدبار فيهما وهو أحد الروايتين عن أبي حنيفة وأحمد .

                                                                                                                                            المذهب الخامس : أن النهي للتنزيه فيكون مكروها وإليه ذهب الإمام القاسم بن إبراهيم وأشار إليه في الأحكام ، وحصله القاضي زيد لمذهب الهادي ونسبه في البحر إلى المؤيد بالله وأبي طالب والناصر والنخعي وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي أيوب الأنصاري .

                                                                                                                                            المذهب السادس : جواز [ ص: 104 ] الاستدبار في البنيان فقط وهو قول أبي يوسف ذكره في الفتح .

                                                                                                                                            المذهب السابع : التحريم مطلقا حتى في القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس وهو محكي عن إبراهيم وابن سيرين ذكره أيضا في الفتح وقد ذهب إلى عدم الفرق بين القبلتين الهادوية ولكنهم صرحوا بأنه مكروه فقط .

                                                                                                                                            المذهب الثامن : أن التحريم مختص بأهل المدينة ومن كان على سمتها فأما من كانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقا قاله أبو عوانة صاحب المزني هكذا في الفتح . احتج أهل المذهب الأول بالأحاديث الصحيحة الواردة في النهي مطلقا كحديث الباب وحديث أبي أيوب وحديث سلمان وغيرها عن غيرهم كما تقدم قالوا : لأن المنع ليس إلا لحرمة القبلة وهذا المعنى موجود في الصحاري والبنيان ولو كان مجرد الحائل كافيا لجاز في الصحاري لوجود الحائل من جبل أو واد أو غيرهما من أنواع الحائل .

                                                                                                                                            وأجابوا عن حديث ابن عمر أنه { رأى النبي صلى الله عليه وسلم مستقبل الشام مستدبر الكعبة } بأنه ليس فيه أنه كان ذلك بعد النهي ، وبأنه موافق لما كان عليه الناس قبل النهي فهو منسوخ صرح بذلك ابن حزم . وعن حديث جابر الذي قال فيه : { نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها } بأن فيه أبان بن صالح وليس بالمشهور قاله ابن حزم .

                                                                                                                                            وفيه أنه قد حسن الحديث الترمذي والبزار وصححه البخاري وابن السكن .

                                                                                                                                            والأولى في الجواب عنه أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بنا كما تقرر في الأصول ، وعن حديث عائشة قالت : { ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال : أوقد فعلوها حولوا مقعدي قبل القبلة } بأنه من طريق خالد بن أبي الصلت وهو مجهول لا ندري من هو قاله ابن حزم ، وقال الذهبي في ترجمته : إن حديث ( حولوا مقعدي ) منكر وفيه أنه قال النووي في شرح مسلم : إن إسناده حسن . واحتج أهل المذهب الثاني بحديث ابن عمر وجابر وعائشة ، وسيأتي ذكر من أخرجها في الباب الذي بعد هذا وقالوا : إنها ناسخة للنهي .

                                                                                                                                            واحتج أهل المذهب الثالث بحديث ابن عمر وعائشة ; لأن ذلك كان في البنيان قالوا : أو وبهذا حصل الجمع بين الأحاديث والجمع بينها ما أمكن هو الواجب قال الحافظ في الفتح : وهو أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة انتهى . ويرده حديث جابر الآتي فإنه لم يقيد الاستقبال فيه بالبنيان ، وقد يجاب بأنها حكاية فعل لا عموم لها ، وسيأتي تحقيق الكلام في الباب الذي بعد هذا . وما روي عن ابن عمر أنه قال : إنما نهى عن ذلك في الفضاء كما سيأتي ، يؤيد هذا المذهب .

                                                                                                                                            واحتج أهل المذهب الرابع بحديث سلمان الذي في صحيح مسلم وليس فيه إلا النهي عن الاستقبال فقط وهو باطل ; لأن النهي عن الاستدبار في الأحاديث الصحيحة وهو زيادة يتعين الأخذ بها .

                                                                                                                                            واحتج [ ص: 105 ] أهل المذهب الخامس بحديث عائشة وجابر وابن عمر وسيأتي ذكر ذلك ، قالوا : إنها صارفة للنهي عن معناه الحقيقي وهو التحريم إلى الكراهة وهو لا يتم في حديث ابن عمر وجابر ; لأنه ليس فيهما إلا مجرد الفعل وهو لا يعارض القول الخاص بنا كما تقرر في الأصول . ولا شك أن قوله : ( لا تستقبلوا القبلة ) خطاب للأمة . نعم إن صح حديث عائشة صلح لذلك . واحتج أهل المذهب السادس بحديث ابن عمر ; لأن فيه أنه رآه مستدبر القبلة مستقبل الشام ، وفيه ما سلف .

                                                                                                                                            احتج أهل المذهب السابع بما رواه أبو داود قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين ببول أو بغائط } رواه أبو داود وابن ماجه ، قال الحافظ في الفتح : وهو حديث ضعيف ; لأن فيه راويا مجهول الحال وعلى تقدير صحته فالمراد بذلك أهل المدينة ومن على سمتها ; لأن استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبارهم الكعبة فالعلة استدبار الكعبة لا استقبال بيت المقدس .

                                                                                                                                            وقد ادعى الخطابي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله القبلة وفيه نظر لما ذكرناه عن إبراهيم وابن سيرين انتهى . وقد نسبه في البحر إلى عطاء والزهري والمنصور بالله والمذهب .

                                                                                                                                            واحتج أهل المذهب الثامن بعموم قوله : ( شرقوا أو غربوا ) وهو استدلال في غاية الركة والضعف . إذا عرفت هذه المذاهب وأدلتها لم يخف عليك ما هو الصواب منها وسيأتيك التصريح به والمقام من معارك النظار فتدبره .

                                                                                                                                            وفي الحديث أيضا دلالة على أنه يجب الاستنجاء بثلاثة أحجار ولا يجوز الاستنجاء بدونها لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء بدون ثلاثة أحجار ، وأما بأكثر من ثلاث فلا بأس به ; لأنه أدخل في الإنقاء .

                                                                                                                                            وقد ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور إلى وجوب الاستنجاء وأنه يجب أن يكون بثلاثة أحجار أو ثلاث مسحات ، وإذا استنجى للقبل والدبر وجب ست مسحات لكل واحد ثلاث مسحات ، قالوا : والأفضل أن يكون بستة أحجار فإن اقتصر على حجر واحد له ستة أحرف أجزأه ، وكذلك الخرقة الصفيقة التي إذا مسح بأحد جانبيها لا يصل البلل إلى الجانب الآخر قالوا : وتجب الزيادة على ثلاثة أحجار إن لم يحصل الإنقاء بها . وذهب مالك وداود إلى أن الواجب الإنقاء فإن حصل بحجر أجزأه وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي .

                                                                                                                                            ذهبت العترة وأبو حنيفة إلى أنه ليس بواجب وإنما يجب عند الهادوية على المتيمم إذا لم يستنج بالماء لإزالة النجاسة قالوا : إذ لا دليل على الوجوب كذا في البحر ، وفيه أنه قد ثبت الأمر بالاستجمار والنهي عن تركه بل النهي عن الاستجمار بدون الثلاث فكيف . يقال : لا دليل على الوجوب ؟ وفي الحديث أيضا النهي عن الاستطابة باليمين . قال النووي : وقد أجمع العلماء على أنه منهي عنه ، ثم الجمهور على أنه نهي تنزيه وأدب لا نهي تحريم .

                                                                                                                                            وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنه حرام قال : وأشار إلى تحريمه جماعة من [ ص: 106 ] أصحابنا انتهى . قلت : وهو الحق ; لأن النهي يقتضي التحريم ولا صارف له فلا وجه للحكم بالكراهة فقط .

                                                                                                                                            وفي الحديث أيضا دلالة على كراهة الاستجمار بالروثة وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم عند البخاري أنه قال : ( إنها ركس ) ولم يستجمر بها ، وكذلك الرمة وهي العظم ; لأنها من طعام الجن وسيأتي الكلام على ذلك في باب النهي عن الاستجمار بدون الثلاثة الأحجار

                                                                                                                                            85 - ( وعن أبي أيوب الأنصاري عن النبي قال صلى الله عليه وسلم : { إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا } . قال أبو أيوب : فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله تعالى . متفق عليه ) .

                                                                                                                                            قوله : " إذا أتيتم الغائط " هو الموضع المطمئن من الأرض كانوا ينتابونه للحاجة فكنوا به عن نفس الحديث كراهية منهم لذكره بخاص اسمه . قوله : ( ولكن شرقوا أو غربوا ) محمول على محل يكون التشريق والتغريب فيه مخالفا لاستقبال القبلة واستدبارها كالمدينة وما في معناها من البلاد ، ولا يدخل فيه ما كانت القبلة فيه إلى المشرق أو المغرب .

                                                                                                                                            قوله : ( مراحيض ) بفتح الميم وبالحاء المهملة وبالضاد المعجمة : جمع مرحاض : وهو المغتسل وهو أيضا كناية عن موضع التخلي . قوله : ( ونستغفر الله ) قيل : يراد به الاستغفار لباني الكنف على هذه الصفة الممنوعة عنده ، وإنما وجب المصير إلى هذا التأويل ; لأن المنحرف . لا يحتاج إلى استغفار . والحديث استدل به على المنع من استقبال القبلة . واستدل بقول أبي أيوب من لم يفرق بين الصحاري والبنيان وقد تقدم الكلام على فقه الحديث في الذي قبله .

                                                                                                                                            ( باب جواز ذلك بين البنيان ) 86 - ( عن ابن عمر رضي الله عنه قال : { رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة } . رواه الجماعة ) . وقع في رواية لابن حبان مستقبل القبلة مستدبر الشام ، قال الحافظ : هي خطأ تعد من قسم المقلوب . قوله : ( رقيت ) رقي إلى الشيء بكسر القاف رقيا ورقوا : صعد [ ص: 107 ] وترقى مثله ورقي غيره المرقاة والمرقاة : الدرجة ، ونظيره مسقاة ومسقاه ومثناة ومثناه للحبل ومبناة ومبناة للعيبة أو النطع يعني بفتح الميم وكسرها فيها ، قاله ابن سيد الناس في شرح الترمذي .

                                                                                                                                            قوله : ( على بيت حفصة ) وقع في رواية ( على ظهر بيت لنا ) وفي أخرى : ( على ظهر بيتنا ) وكلها في الصحيح .

                                                                                                                                            وفي رواية لابن خزيمة : ( دخلت على حفصة بنت عمر فصعدت ظهر البيت ) وطريق الجمع أن يقال : أضاف البيت إليه على سبيل المجاز لكونها أخته وأضافه إلى حفصة ; لأنه البيت الذي أسكنها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو أضافه إلى نفسه باعتبار ما آل إليه الحال ; لأنه ورث حفصة دون إخوته لكونه شقيقها . الحديث يدل على جواز استدبار القبلة حال قضاء الحاجة .

                                                                                                                                            وقد استدل به من قال بجواز الاستقبال والاستدبار ، ورأى أنه ناسخ ، واعتقد الإباحة مطلقا . وبه احتج من خص عدم الجواز بالصحاري كما تقدم ، ومن خص المنع بالاستقبال دون الاستدبار في الصحاري والعمران ، ومن جوز الاستدبار في البنيان وهي أربعة مذاهب من المذاهب الثمانية التي تقدمت ، ولكنه لا يخفى أن الدليل باعتبار الثلاثة المذاهب الأول من هذه الأربعة أخص من الدعوى .

                                                                                                                                            أما الأول منها فظاهر . وأما الثاني ; فلأن المدعي جواز الاستقبال والاستدبار في البنيان ، وليس في الحديث إلا الاستدبار . وأما الثالث ; فلأن المدعي جواز الاستدبار في الصحاري والعمران ، وليس في الحديث إلا الاستدبار في العمران فقط ، ويمكن تأييد الأول من الأربعة بأن اعتبار خصوص كونه في البنيان وصف ملغي فيطرح ، ويؤخذ منه الجواز مجردا عن ذلك ، ولكنه يفت في عضد هذا التأييد أن الواجب أن يقتصر في مخالفة مقتضى العموم على مقدار الضرورة ، ويبقى العام على مقتضى عمومه فيما بقي من الصور إذ لا معارض له فيما عدا تلك الصورة المخصوصة التي ورد بها الدليل الخاص ، وهذا لو فرض أن حديث أبي أيوب وغيره ورد بصيغة واحدة تعم الاستقبال والاستدبار فكيف وهو قد ورد بصيغتين : صيغة دلت على منع الاستقبال ، وصيغة دلت على منع الاستدبار فغاية ما في حديث ابن عمر تخصيص الصيغة الثانية ; لأنه وارد في البنيان ، وهي عامة لكل استدبار ، ويمكن أيضا تأييد المذهب الثاني من هذه الأربعة بأن الاستقبال في البنيان يقاس على الاستدبار ولكنه يخدش فيه ما قاله ابن دقيق العيد : إن هذا تقديم للقياس على مقتضى اللفظ العام وفيه ما فيه على ما عرف في أصول الفقه ، وبأن شرط القياس مساواة الفرع للأصل أو زيادة عليه في المعنى المعتبر في الحكم ، ولا تساوي ههنا ، فإن الاستقبال يزيد في القبح على الاستدبار على ما يشهد به العرف ، ولهذا اعتبر بعض العلماء هذا المعنى فمنع الاستقبال ، وأجاز الاستدبار ، وإذا كان الاستقبال أزيد في القبح من الاستدبار فلا يلزم من إلغاء المفسدة الناقصة في القبح في حكم الجواز إلغاء المفسدة الزائدة في القبح [ ص: 108 ] في حكم الجواز انتهى .

                                                                                                                                            وفيه أن دعوى الزيادة في القبح ممنوعة ومجرد اقتصار بعض أهل العلم على منع الاستقبال ليس لكونه أشد بل ; لأنه لم يقم دليل على جوازه ، كما قام على جواز الاستدبار ، والتخصيص بالقياس مذهب مشهور راجح ، وهذا على تسليم أنه لا دليل على الجواز إلا مجرد القياس وليس كذلك ، فإن حديث جابر الآتي بلفظ أنه رآه قبل أن يقبض بعام مستقبل القبلة نص في محل النزاع لولا ما أسلفناه في الباب الأول من أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض قوله الخاص بنا كما تقرر في الأصول . ويمكن تأييد المذهب الثالث من الأربعة بأن الاستدبار في الفضاء ملحق بالاستدبار في البنيان ; لأن الأمكنة أوصاف طردية ملغاة ، ويقدح فيها ما سلف .

                                                                                                                                            وأما المذهب الرابع فلا مطعن فيه إلا ما ذكرناه من أنه لا تعارض بين قوله الخاص بنا وفعله ، لا سيما رؤية ابن عمر كانت اتفاقية من دون قصد منه ولا من الرسول صلى الله عليه وسلم فلو كان يترتب على هذا الفعل حكم لعامة الناس لبينه لهم ، فإن الأحكام العامة لا بد من بيانها فليس في المقام ما يصلح للتمسك به في الجواز إلا حديث عائشة الآتي إن صلح للاحتجاج . ومن جملة المستدلين بحديث ابن عمر ، القائلون بكراهة التنزيه وفيه ما مر . وبقية الكلام على الحديث تقدمت في الباب الأول .

                                                                                                                                            87 - ( وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : { نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها } . رواه الخمسة إلا النسائي ) . وأخرجه أيضا البزار وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني ، وحسنه والترمذي ، ونقل عن البخاري تصحيحه . وحسنه أيضا البزار ، وصححه أيضا ابن السكن ، وتوقف فيه النووي لعنعنة ابن إسحاق .

                                                                                                                                            وقد صرح بالتحديث في رواية أحمد وغيره وضعفه ابن عبد البر بأبان بن صالح القرشي ، قال الحافظ : ووهم في ذلك فإنه ثقة بالاتفاق . وادعى ابن حزم أنه مجهول فغلط .

                                                                                                                                            والحديث استدل به من قال بجواز الاستقبال والاستدبار في الصحاري والعمران وجعله ناسخا ، وفيه ما سلف إلا أن الاستدلال به أظهر من الاستدلال بحديث ابن عمر . ; لأن فيه التصريح بتأخره عن النهي ، ولا تصريح في حديث ابن عمرو ولعدم تقييده بالبنيان كما في حديث ابن عمر ، ولعدم ما يدل على أن الرؤية كانت اتفاقية بخلاف حديث ابن عمر ، وهو يرد على من قال بجواز الاستدبار فقط سواء قيده بالبنيان كما ذهب إليه البعض أو لم يقيده كما ذهب إليه آخرون ، وقد سبق ذكرهم في الباب الأول ، ويرد أيضا على من قيد جواز الاستقبال والاستدبار [ ص: 109 ] بالبنيان لعدم التقييد من جابر ، وقد يجاب بأنها حكاية فعل لا عموم لها فيحتمل أن يكون لعذر وأن يكون في بنيان ، هكذا أجاب الحافظ ابن حجر ، ذكر ذلك في التلخيص ، ولا يخفى أن احتمال أن يكون ذلك الفعل لعذر يقال مثله من حديث ابن عمر فلا يتم للشافعية ومن معهم الاحتجاج به على تخصيص الجواز بالبنيان .

                                                                                                                                            وقد تقدم الكلام على الحديث في الذي قبله وفي الباب الأول .

                                                                                                                                            88 - ( وعن عائشة رضي الله عنها قالت : { ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال : أو قد فعلوها حولوا مقعدتي قبل القبلة } . رواه أحمد وابن ماجه ) . الحديث قال ابن حزم في المحلى : إنه ساقط ; لأن راويه خالد الحذاء وهو ثقة عن خالد بن أبي الصلت وهو مجهول لا ندري هو ، وأخطأ فيه عبد الرزاق ، فرواه عن خالد الحذاء عن كثير بن الصلت وهذا أبطل وأبطل ; لأن خالد الحذاء لم يدرك كثير بن الصلت ، ثم لو صح لما كانت فيه حجة ; لأن نصه صلى الله عليه وسلم يبين أنه إنما كان قبل النهي ; لأن من الباطل المحال أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاهم عن استقبال القبلة بالبول والغائط ، ثم ينكر عليهم طاعته في ذلك ، هذا ما لا يظنه مسلم ولا ذو عقل ،

                                                                                                                                            وفي هذا الخبر إنكار ذلك عليهم ، فلو صح لكان منسوخا بلا شك ، ثم لو صح لما كان فيه إلا إباحة الاستقبال فقط لا إباحة الاستدبار أصلا فبطل تعلقهم به انتهى .

                                                                                                                                            وقال الذهبي في الميزان في ترجمة خالد بن أبي الصلت : إن هذا الحديث منكر . وقال النووي في شرح مسلم : إن إسناده حسن .

                                                                                                                                            والحديث استدل به من ذهب إلى النسخ ، وقد عرفناك أنه لا دليل يدل على الجواز إلا هذا الحديث ; لأنه لا يصح دعوى اختصاصه بالنبي صلى الله عليه وسلم لقوله : ( أو قد فعلوها ) .

                                                                                                                                            وأما حديث ابن عمر وجابر فقد قررنا لك أن فعله لا يعارض القول الخاص بالأمة .

                                                                                                                                            قوله : ( لا تستقبلوا ولا تستدبروا ) من الخطابات الخاصة بهم فيكون فعله بعد القول دليل الاختصاص به لعدم شمول ذلك الخطاب له بطريق الظهور ، ولا صيغة تكون فيها النصوصية عليه ، وهذا قد تقرر في الأصول ولم يذهب إلى خلافه أحد من أئمته الفحول ، ولكن الشأن في صحة هذا الحديث وارتفاعه إلى درجة الاعتبار وأين هو من ذاك ؟ فالإنصاف الحكم بالمنع مطلقا ، والجزم بالتحريم حتى ينتهض دليل يصلح للنسخ أو التخصيص أو المعارضة ، ولم نقف على شيء من ذلك إلا أنه يؤنس بمذهب من خص المنع بالفضاء ، ما سيأتي عن ابن عمر من قوله : إنما نهى عن هذا في الفضاء بالصيغة القاضية بحصر النهي [ ص: 110 ] عليه ، وسيأتي ما فيه .

                                                                                                                                            89 - ( وعن مروان الأصفر قال : { رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة يبول إليها فقلت : أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن ذلك فقال : بلى ، إنما نهي عن هذا في الفضاء فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس } . رواه أبو داود ) . أخرجه وسكت عنه ، وقد صح عنه أنه لا يسكت إلا عما هو صالح للاحتجاج ، وكذلك سكت عنه المنذري ولم يتكلم عليه في تخريج السنن . وذكره الحافظ ابن حجر في التلخيص ولم يتكلم عليه بشيء ، وذكره في الفتح أنه أخرجه أبو داود والحاكم بإسناد حسن ، وروى البيهقي

                                                                                                                                            من طريق عيسى الحناط قال : قلت للشعبي : إني لأعجب لاختلاف أبي هريرة وابن عمر قال نافع عن ابن عمر : { دخلت إلى بيت حفصة فحانت مني التفاتة ، فرأيت كنيف رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة } . وقال أبو هريرة : { إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها } ، قال الشعبي : صدقا جميعا ، أما قول أبي هريرة فهو في الصحراء ، فإن لله عبادا وملائكة وجنا يصلون ، فلا يستقبلهم أحد ببول ولا غائط ولا يستدبرهم ، وأما كنفكم هذه فإنما هي بيوت لا قبلة فيها ، وأخرجه ابن ماجه مختصرا .

                                                                                                                                            وقول ابن عمر يدل على أن النهي عن الاستقبال والاستدبار إنما هو في الصحراء مع عدم الساتر ، وهو يصلح دليلا لمن فرق بين الصحراء والبنيان ، ولكنه لا يدل على المنع في الفضاء على كل حال كما ذهب إليه البعض ، بل مع عدم الساتر ، وإنما قلنا بصلاحيته للاستدلال ; لأن قوله : إنما نهي عن هذا في الفضاء يدل على أنه قد علم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أنه قال ذلك إسنادا إلى الفعل الذي شاهده ورواه ، فكأنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة مستدبرا للقبلة فهم اختصاص النهي بالبنيان ، فلا يكون هذا الفهم حجة ، ولا يصلح هذا القول للاستدلال به ، وأقل شيء الاحتمال ، فلا ينتهض لإفادة المطلوب ، وقد سقنا في شرح أحاديث هذا الباب والذي قبله من الكلام على هذه المسألة المعضلة أبحاثا لا تجدها في غير هذا الكتاب ، ولعلك لا تحتاج بعد إمعان النظر فيها إلى غيره .



                                                                                                                                            ( فائدة ) قال المنصور بالله والغزالي والصيمري : إنه يكره استقبال القمرين والنيرات قالوا : لشرفها بالقسم بها فأشبهت الكعبة كذا في البحر ، وقد استقوى عدم الكراهة . وقد قيل في الاستدلال على الكراهة بأنه روى الحكيم الترمذي عن الحسن قال : حدثني [ ص: 111 ] سبعة رهط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم : أبو هريرة وجابر وعبد الله بن عمرو وعمران بن حصين ومعقل بن يسار وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك يزيد بعضهم على بعض في الحديث : { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في المغتسل ، ونهى عن البول في الماء الراكد ، ونهى عن البول في الشارع ، ونهى أن يبول الرجل وفرجه باد إلى الشمس والقمر } فذكر حديثا طويلا في نحو خمسة أوراق على هذا الأسلوب . قال الحافظ : وهو حديث باطل لا أصل له بل هو من اختلاق عباد بن كثير ، وذكر أن مداره عليه . وقال النووي في شرح المهذب : هذا حديث باطل ، وقال ابن الصلاح : لا يعرف ، وهو ضعيف ، انتهى .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية