الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب اقتداء القادر على القيام بالجالس وأنه يجلس معه

                                                                                                                                            1100 - ( عن عائشة أنها قالت { : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك ، فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما ، فأشار إليهم أن اجلسوا ، فلما انصرف قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا } ) .

                                                                                                                                            1101 - ( وعن أنس قال { : سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس ، فجحش شقه الأيمن ، فدخلنا عليه نعوده ، فحضرت الصلاة فصلى بنا قاعدا ، فصلينا وراءه قعودا فلما قضى الصلاة قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد ، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون } متفق عليهما : وللبخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم { صرع عن فرسه ، فجحش شقه أو كتفه ، فأتاه أصحابه يعودونه ، فصلى بهم جالسا وهم قيام ، فلما سلم قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا صلى قائما فصلوا قياما ، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا } .

                                                                                                                                            ولأحمد في مسنده : حدثنا يزيد بن هارون عن حميد عن أنس : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انفكت قدمه ، فقعد في مشربة له درجتها من جذوع ، فأتى أصحابه يعودونه ، فصلى بهم قاعدا وهم قيام ، فلما حضرت الصلاة الأخرى قال لهم : ائتموا بإمامكم ، فإذا صلى قائما فصلوا قياما ، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا } ) .

                                                                                                                                            1102 - ( وعن جابر قال : { ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا بالمدينة فصرعه على جذم [ ص: 203 ] نخلة فانفكت قدمه ، فأتيناه نعوده فوجدناه في مشربة لعائشة يسبح جالسا ، قال : فقمنا خلفه فسكت عنا ، ثم أتيناه مرة أخرى نعوده فصلى المكتوبة جالسا ، فقمنا خلفه فأشار إلينا فقعدنا ، فلما قضى الصلاة قال : إذا صلى الإمام جالسا فصلوا جلوسا ، وإذا صلى الإمام قائما فصلوا قياما ، ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها } رواه أبو داود ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث عائشة أخرجه أيضا أبو داود ابن ماجه . وحديث أنس أخرجه أيضا بقية الأئمة الستة . وحديث جابر أخرجه أيضا مسلم وابن ماجه والنسائي من رواية الليث عن أبي الزبير عن جابر بلفظ : { اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره ، فالتفت إلينا فرآنا قياما ، فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودا ، فلما سلم قال : إن كنتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ، ائتموا بأئمتكم ، إن صلى قائما فصلوا قياما ، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا } ورواه أيضا مسلم من رواية عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي عن أبي الزبير عن جابر . ورواه أبو داود من رواية الأعمش عن أبي سفيان عن جابر .

                                                                                                                                            وفي الباب أحاديث قد قدمنا الإشارة إليها في باب وجوب متابعة الإمام ، وقد قدمنا الكلام على أكثر ألفاظ أحاديث الباب هنالك قوله : ( مشربة ) بفتح الميم وبالشين المعجمة وبضم الراء وفتحها وهي الغرفة ، وقيل : كالخزانة فيها الطعام والشراب ، ولهذا سميت مشربة ، فإن المشربة بفتح الراء فقط : هي الموضع الذي يشرب منه الناس قوله : ( على جذم ) بجيم مكسورة وذال معجمة ساكنة : وهو أصل الشيء ، والمراد هنا أصل النخلة .

                                                                                                                                            وفي رواية ابن حبان : " على جذع نخلة ذهب أعلاها وبقي أصلها في الأرض " ، وحكى الجوهري فتح الجيم وهي ضعيفة ، فإن الجذم بالفتح : القطع . قوله : ( فانفكت ) الفك : نوع من الوهن والخلع ، وانفك العظم : انتقل من مفصله ، يقال فككت الشيء : أبنت بعضه من بعض .

                                                                                                                                            وقد استدل بالأحاديث المذكورة في الباب القائلون : إن المأموم يتابع الإمام في الصلاة قاعدا وإن لم يكن المأموم معذورا ، وممن قال بذلك : أحمد وإسحاق والأوزاعي وابن المنذر وداود وبقية أهل الظاهر ، قال ابن حزم : وبهذا نأخذ ، إلا فيمن يصلي إلى جنب الإمام يذكر الناس ويعلمهم تكبير الإمام فإنه يتخير بين أن يصلي قاعدا وبين أن يصلي قائما . قال ابن حزم : وبمثل قولنا يقول جمهور السلف ، ثم رواه عن جابر وأبي هريرة وأسيد بن حضير قال : ولا مخالف لهم يعرف في الصحابة .

                                                                                                                                            ورواه عن عطاء وروي عن عبد الرزاق أنه قال : ما رأيت الناس إلا على أن الإمام إذا صلى قاعدا صلى من خلفه قعودا ، قال : [ ص: 204 ] وهي السنة عن غير واحد وقد حكاه ابن حبان أيضا عن الصحابة الثلاثة المذكورين ، وعن قيس بن قهد أيضا من الصحابة .

                                                                                                                                            وعن أبي الشعثاء وجابر بن زيد من التابعين ، وحكاه أيضا عن مالك بن أنس وأبي أيوب سليمان بن داود الهاشمي وأبي خيثمة وابن أبي شيبة ومحمد بن إسماعيل ومن تبعهم من أصحاب الحديث مثل محمد بن نصر ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ، ثم قال بعد ذلك : وهو عندي ضرب من الإجماع الذي أجمعوا على إجازته ; لأن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أفتوا به وبالإجماع عندنا إجماع الصحابة ، ولم يرو عن أحد من الصحابة خلاف لهؤلاء الأربعة ، لا بإسناد متصل ولا منقطع ، فكأن الصحابة أجمعوا على أن الإمام إذا صلى قاعدا كان على المأمومين أن يصلوا قعودا ، وقد أفتى به من التابعين جابر بن زيد وأبو الشعثاء ، ولم يرو عن أحد من التابعين أصلا خلافه لا بإسناد صحيح ولا واه فكأن التابعين أجمعوا على إجازته .

                                                                                                                                            قال : وأول من أبطل في هذه الأمة صلاة المأموم قاعدا إذا صلى إمامه جالسا المغيرة بن مقسم صاحب النخعي وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان ثم أخذ عن حماد أبو حنيفة ، وتبعه عليه من بعده من أصحابه انتهى كلام ابن حبان . وحكى الخطابي في المعالم والقاضي عياض عن أكثر الفقهاء خلاف ذلك . وحكى النووي عن جمهور السلف خلاف ما حكى ابن حزم عنهم . وحكاه ابن دقيق العيد عن أكثر الفقهاء المشهورين .

                                                                                                                                            وقال الحازمي في الاعتبار ما لفظه : وقال أكثر أهل العلم : يصلون قياما ولا يتابعون الإمام في الجلوس . وقد أجاب المخالفون لأحاديث الباب بأجوبة : أحدها دعوى النسخ ، قاله الشافعي والحميدي وغير واحد ، وجعلوا الناسخ ما تقدم من صلاته صلى الله عليه وسلم في مرض موته بالناس قاعدا وهم قائمون خلفه ولم يأمرهم بالقعود . وأنكر أحمد نسخ الأمر بذلك .

                                                                                                                                            وجمع بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين : إحداهما : إذا ابتدأ الإمام الراتب الصلاة قاعدا لمرض يرجى برؤه فحينئذ يصلون خلفه قعودا . ثانيتهما : إذا ابتدأ الإمام الراتب قائما لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياما ، سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعدا أم لا كما في الأحاديث التي في مرض موته صلى الله عليه وسلم ، فإن تقريره لهم على القيام دل على أنه لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة ; لأن أبا بكر ابتدأ الصلاة قائما وصلوا معه قياما ، بخلاف الحالة الأولى { فإنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ الصلاة جالسا ، فلما صلوا خلفه قياما أنكر عليهم } .

                                                                                                                                            ويقوي هذا الجمع أن الأصل عدم النسخ لا سيما وهو في هذه الحالة يستلزم النسخ مرتين ; لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصلي قاعدا ، وقد نسخ إلى القعود في حق من صلى إمامه قاعدا . فدعوى نسخ القعود بعد ذلك تقتضي وقوع النسخ مرتين وهو بعيد . والجواب الثاني من الأجوبة التي أجاب بها المخالفون لأحاديث الباب : دعوى التخصيص بالنبي صلى الله عليه وسلم في كونه يؤم [ ص: 205 ] جالسا . حكى ذلك القاضي عياض ، قال : ولا يصح لأحد أن يؤم جالسا بعده صلى الله عليه وسلم . قال : وهو مشهور قول مالك وجماعة أصحابه . قال : وهذا أولى الأقاويل لأنه صلى الله عليه وسلم لا يصح التقدم بين يديه في الصلاة ولا في غيرها ولا لعذر ولا لغيره . ورد بصلاته صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف وخلف أبي بكر ، وقد تقدم ذلك .

                                                                                                                                            وقد استدل على دعوى التخصيص بحديث الشعبي عن جابر مرفوعا : { لا يؤمن أحد بعدي جالسا } .

                                                                                                                                            وأجيب عن ذلك بأن الحديث لا يصح من وجه من الوجوه كما قال العراقي ، وهو أيضا عند الدارقطني من رواية جابر الجعفي عن الشعبي مرسلا ، وجابر متروك .

                                                                                                                                            وروي أيضا من رواية مجالد عن الشعبي ، ومجالد ضعفه الجمهور . ولما ذكر ابن العربي أن هذا الحديث لا يصح عقبه بقوله : بيد أني سمعت بعض الأشياخ أن الحال أحد وجوه التخصيص ، وحال النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك به وعدم العوض منه يقتضي الصلاة خلفه قاعدا ، وليس ذلك كله لغيره انتهى . قال ابن دقيق العيد : وقد عرف أن الأصل عدم التخصيص حتى يدل عليه دليل انتهى . على أنه يقدح في التخصيص ما أخرجه أبو داود أن أسيد بن حضير كان يؤم قومه ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده ، فقيل يا رسول الله : إن إمامنا مريض ، فقال : { إذا صلى قاعدا فصلوا قعودا } قال أبو داود : وهذا الحديث ليس بمتصل .

                                                                                                                                            وما أخرجه عبد الرزاق عن قيس بن قهد الأنصاري أن إماما لهم اشتكى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : { فكان يؤمنا جالسا ونحن جلوس } قال العراقي : وإسناده صحيح .

                                                                                                                                            والجواب الثالث من الأجوبة التي أجاب بها المخالفون لأحاديث الباب : أنه يجمع بين الأحاديث بما تقدم عن أحمد بن حنبل : وأجيب عنه بأن الأحاديث ترده لما في بعض الطرق أنه أشار إليهم بعد الدخول في الصلاة . والجواب الرابع : تأويل قوله : { وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا } أي وإذا تشهد قاعدا فتشهدوا قعودا أجمعين . حكاه ابن حبان في صحيحه عن بعض العراقيين ، وهو كما قال ابن حبان : تحريف للخبر عمومه بغير دليل . ويرده ما ثبت في حديث عائشة : أنه أشار إليهم أن اجلسوا .

                                                                                                                                            وفيه تعليل ذلك بموافقة الأعاجم في القيام على ملوكهم . إذا عرفت الأجوبة التي أجاب بها المخالفون لأحاديث الباب فاعلم أنه قد أجاب المتمسكون بها على الأحاديث المخالفة لها بأجوبة : منها قول ابن خزيمة : إن الأحاديث التي وردت بأمر المأموم أن يصلي قاعدا لم يختلف في صحتها ولا في سياقها .

                                                                                                                                            وأما صلاته صلى الله عليه وسلم في مرض موته فاختلف فيها هل كان إماما أو مأموما . ومنها أن بعضهم جمع بين القصتين بأن الأمر بالجلوس كان للندب ، وتقريره قيامهم خلفه كان لبيان الجواز . ومنها أنه استمر عمل الصحابة على القعود خلف الإمام القاعد في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد موته كما تقدم عن أسيد بن حضير وقيس بن قهد . وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن [ ص: 206 ] جابر : " أنه اشتكى فحضرت الصلاة فصلى بهم جالسا وصلوا معه جلوسا " وعن أبي هريرة أيضا : أنه أفتى بذلك ، وإسناده كما قال الحافظ : صحيح ، ومنها ما روي عن ابن شعبان : أنه نازع في ثبوت كون الصحابة صلوا خلفه صلى الله عليه وسلم قياما غير أبي بكر ; لأن ذلك لم يرد صريحا . قال الحافظ : والذي ادعى نفيه قد أثبته الشافعي وقال : إنه في رواية إبراهيم عن الأسود عن عائشة . قال الحافظ : ثم وجدته مصرحا به في مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج ، أخبرني عطاء فذكر الحديث ولفظه : { فصلى النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا . وجعل أبا بكر وراءه بينه وبين الناس ، وصلى الناس وراءه قياما } قال : وهذا مرسل يعتضد بالراوية التي غلقها الشافعي عن النخعي ، قال : وهذا الذي يقتضيه النظر لأنهم ابتدءوا الصلاة مع أبي بكر قياما ، فمن ادعى أنهم قعدوا بعد ذلك فعليه البيان .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية