الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            1157 - ( وعن عائشة قالت : { خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان فأفطر وصمت ، وقصر وأتممت ، فقلت : بأبي وأمي أفطرت وصمت ، وقصرت وأتممت ، فقال : أحسنت يا عائشة } رواه الدارقطني وقال : هذا إسناد حسن ) .

                                                                                                                                            1158 - ( وعن عائشة { : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ، ويفطر ويصوم } . رواه الدارقطني وقال : إسناد صحيح ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الحديث الأول أخرجه أيضا النسائي والبيهقي بزيادة : { أن عائشة اعتمرت مع [ ص: 242 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، حتى إذا قدمت مكة قالت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، أتممت وقصرت } الحديث ، وفي إسناده العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي عنها والعلاء بن زهير قال ابن حبان : كان يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الأثبات ، وقال ابن معين : ثقة . وقد اختلف في سماع عبد الرحمن منها ، فقال الدارقطني : أدرك عائشة ودخل عليها وهو مراهق .

                                                                                                                                            قال الحافظ : وهو كما قال ، ففي تاريخ البخاري وغيره ما يشهد لذلك . وقال أبو حاتم : أدخل عليها وهو صغير ولم يسمع منها ، وادعى ابن أبي شيبة والطحاوي ثبوت سماعه منها وفي رواية الدارقطني عن عبد الرحمن عن أبيه عن عائشة ، قال أبو بكر النيسابوري : من قال فيه : عن عائشة ، فقد أخطأ . واختلف قول الدارقطني فيه ، فقال في السنن : إسناده حسن ، وقال في العلل : المرسل أشبه . قال في البدر المنير : إن في متن هذا الحديث نكارة وهو كون عائشة خرجت معه في عمرة رمضان والمشهور أنه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر إلا أربع عمر ليس منهن شيء في رمضان بل كلهن في ذي القعدة ، إلا التي مع حجته فكان إحرامها في ذي القعدة وفعلها في ذي الحجة .

                                                                                                                                            قال : هذا هو المعروف في الصحيحين . قال : وتمحل بعض شيوخنا الحفاظ في الجواب عن هذا الإشكال فقال : لعل عائشة ممن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفره عام الفتح ، وكان سفره ذلك في رمضان ، ولم يرجع من سفره ذلك حتى اعتمر عمرة الجعرانة ، فأشارت بالقصر والإتمام والفطر والصيام والعمرة إلى ما كان في تلك السفرة قال : قال شيخنا : وقد روي من حديث ابن عباس : " أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر في رمضان " ثم رأيت بعد ذلك القاضي عياضا أجاب بهذا الجواب فقال : لعل هذه عملها في شوال وكان ابتداء خروجها في رمضان . وظاهر كلام أبي حاتم بن حبان أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر في رمضان فإنه قال في صحيحه : " اعتمر صلى الله عليه وسلم أربع عمر : الأولى عمرة القضاء سنة القابل من عام الحديبية ، وكان ذلك في رمضان ثم الثانية حيث فتح مكة وكان فتحها في رمضان ثم خرج منها قبل هوازن ، وكان من أمره ما كان ، فلما رجع وبلغ الجعرانة قسم الغنائم بها واعتمر منها إلى مكة وذلك في شوال .

                                                                                                                                            واعتمر الرابعة في حجته ، وذلك في ذي الحجة سنة عشر من الهجرة . واعترض عليه الحافظ أبو عبد الله بن محمد بن عبد الواحد المقدسي في كلام له على هذا الحديث وقال : وهم في هذا في غير موضع ، وذكر أحاديث في الرد عليه وقال ابن حزم : هذا حديث لا خير فيه وطعن فيه ، ورد عليه ابن النحوي ، قال في الهدي بعد ذكره لهذا الحديث : وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هذا حديث كذب على عائشة ، ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة وهي تشاهدهم [ ص: 243 ] يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب ، كيف وهي القائلة : { فرضت الصلاة ركعتين ، فزيدت في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر } فكيف يظن بها أنها تزيد على فرض الله وتخالف رسول الله وأصحابه ؟ .

                                                                                                                                            وقال الزهري لهشام لما حدثه عن أبيه عنها بذلك : فما شأنها كانت تتم الصلاة ؟ قال : تأولت كما تأول عثمان ، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن فعلها فأقرها عليه فما للتأويل حينئذ وجه ، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير . وقد أخبر ابن عمر { أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر } ، أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون ؟ وأما بعد موته فإنها أتمت كما أتم عثمان ، وكلاهما تأول تأويلا ، والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له ا هـ .

                                                                                                                                            والحديث الثاني صحح إسناده الدارقطني كما ذكره المصنف . قال في التلخيص : وقد استنكره أحمد وصحته بعيدة فإن عائشة كانت تتم . وذكر عروة أنها تأولت ما تأول عثمان كما في الصحيح ، فلو كان عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم رواية لم يقل عروة عنها : إنها تأولت

                                                                                                                                            قال في الهدي بعد ذكر هذا الحديث : وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : وقد روي : كان يقصر وتتم . الأول بالياء آخر الحروف ، والثاني بالتاء المثناة من فوق ، وكذلك يفطر وتصوم ، قال شيخنا : وهذا باطل ، ثم ذكر نحو الكلام السابق من استبعاد مخالفة عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة ، وكذا لفظ الحافظ في التلخيص لفظ تتم وتصوم في هذا الحديث بالمثناة من فوق .

                                                                                                                                            وقد استدل بحديثي الباب القائلون : بأن القصر رخصة وقد تقدم ذكرهم . ويجاب عنهم بأن الحديث الثاني لا حجة فيه لهم لما تقدم من أن لفظ : تتم وتصوم بالفوقانية ، لأن فعلها - على فرض عدم معارضته لقوله وفعله صلى الله عليه وسلم - لا حجة فيه ، فكيف إذا كان معارضا للثابت عنه من طريقها وطريق غيرها من الصحابة . وأما الحديث الأول فلو كان صحيحا لكان حجة لقوله صلى الله عليه وسلم في الجواب عنها : أحسنت ، ولكنه لا ينتهض لمعارضة ما في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة ، وهذا بعد تسليم أنه حسن كما قال الدارقطني فكيف وقد طعن فيه بتلك المطاعن المتقدمة ، فإنها بمجردها توجب سقوط الاستدلال به عند عدم المعارض .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية