الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 145 ] قوله تعالى : يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى

قوله تعالى : يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم لما أنجاهم من فرعون قال لهم هذا ليشكروا . وواعدناكم جانب الطور الأيمن جانب نصب على المفعول الثاني ( لواعدنا ) ولا يحسن أن ينتصب على الظرف ؛ لأنه ظرف مكان غير مبهم . وإنما تتعدى الأفعال والمصادر إلى ظروف المكان بغير حرف جر إذا كانت مبهمة . قال مكي هذا أصل لا خلاف فيه ؛ وتقدير الآية . وواعدناكم إتيان جانب الطور ؛ ثم حذف المضاف . قال النحاس : أي أمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه ليكلمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام . وقيل : وعد موسى بعد إغراق فرعون أن يأتي جانب الطور الأيمن فيؤتيه التوراة ، فالوعد كان لموسى ولكن خوطبوا به لأن الوعد كان لأجلهم . وقرأ أبو عمرو ( ووعدناكم ) بغير ألف واختاره أبو عبيد ؛ لأن الوعد إنما هو من الله تعالى لموسى خاصة ، والمواعدة لا تكون إلا من اثنين . وقد مضى في ( البقرة ) هذا المعنى والأيمن نصب ؛ لأنه نعت للجانب وليس للجبل يمين ولا شمال ، فإذا قيل : خذ عن يمين الجبل فمعناه خذ على يمينك من الجبل . وكان الجبل على يمين موسى إذ أتاه . ونزلنا عليكم المن والسلوى أي في التيه . وقد تقدم القول فيه كلوا من طيبات ما رزقناكم أي من لذيذ الرزق . وقيل : من حلاله إذ لا صنع فيه لآدمي فتدخله شبهة . ولا تطغوا فيه أي لا تحملنكم السعة والعافية أن تعصوا ؛ لأن الطغيان التجاوز إلى ما لا يجوز . وقيل : المعنى ؛ أي لا تكفروا النعمة ولا تنسوا شكر المنعم بها عليكم . وقيل : أي ولا تستبدلوا بها شيئا آخر كما قال : أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير وقيل : لا تدخروا منه لأكثر من يوم وليلة ؛ قال ابن عباس : فيتدود عليهم ما ادخروه ؛ ولولا ذلك ما تدود طعام أبدا .

فيحل عليكم غضبي أي يجب وينزل ، وهو منصوب بالفاء في جواب النهي من قوله : ولا تطغوا . فيحل عليكم غضبي قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي ( فيحل ) بضم الحاء ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي ( ومن يحلل ) بضم اللام الأولى . والباقون بالكسر وهما لغتان . وحكى أبو عبيدة وغيره : أنه يقال : حل يحل إذا وجب وحل يحل إذا نزل . وكذا قال [ ص: 146 ] الفراء : الضم من الحلول بمعنى الوقوع ، والكسر من الوجوب . والمعنيان متقاربان إلا أن الكسر أولى ؛ لأنهم قد أجمعوا على قوله : ويحل عليه عذاب مقيم . وغضب الله عقابه ونقمته وعذابه . فقد هوى قال الزجاج : فقد هلك ؛ أي صار إلى الهاوية وهي قعر النار ، من هوى يهوي هويا أي سقط من علو إلى سفل ، وهوى فلان أي مات . وذكر ابن المبارك : أخبرنا إسماعيل بن عياش قال حدثنا ثعلبة بن مسلم عن أيوب بن بشير عن شفي الأصبحي قال : إن في جهنم جبلا يدعى صعودا يطلع فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يرقاه ؛ قال الله تعالى : سأرهقه صعودا وإن في جهنم قصرا يقال له هوى يرمى الكافر من أعلاه فيهوي أربعين خريفا قبل أن يبلغ أصله قال الله تعالى : ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى وذكر الحديث ؛ وقد ذكرناه في كتاب ( التذكرة ) .

قوله تعالى : وإني لغفار لمن تاب أي من الشرك . وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى أي أقام على إيمانه حتى مات عليه ؛ قاله سفيان الثوري وقتادة وغيرهما . وقال ابن عباس : أي لم يشك في إيمانه ؛ ذكره الماوردي والمهدوي . وقال سهل بن عبد الله التستري وابن عباس أيضا : أقام على السنة والجماعة ؛ ذكره الثعلبي . وقال أنس : أخذ بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر المهدوي ، وحكاه الماوردي عن الربيع بن أنس . وقول خامس : أصاب العمل ؛ قاله ابن زيد ؛ وعنه أيضا : تعلم العلم ليهتدي كيف يفعل ؛ ذكر الأول المهدوي ، والثاني الثعلبي . وقال الشعبي ومقاتل والكلبي : علم أن لذلك ثوابا وعليه عقابا ؛ وقاله الفراء : وقول ثامن : ثم اهتدى في ولاية أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ قاله ثابت البناني . والقول الأول أحسن هذه الأقوال - إن شاء الله - وإليه يرجع سائرها . قال وكيع عن سفيان : كنا نسمع في قوله - عز وجل - : وإني لغفار لمن تاب أي من الشرك وآمن أي بعد الشرك وعمل صالحا صلى وصام ثم اهتدى مات على ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية