الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 23 ] القول في تأويل قوله ( ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ( 90 ) )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : " ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم " ، ولو شاء الله لسلط هؤلاء الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق فيدخلون في جوارهم وذمتهم ، والذين يجيئونكم قد حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم عليكم ، أيها المؤمنون ، فقاتلوكم مع أعدائكم من المشركين ، ولكن الله تعالى ذكره كفهم عنكم . يقول جل ثناؤه : فأطيعوا الذي أنعم عليكم بكفهم عنكم مع سائر ما أنعم به عليكم ، فيما أمركم به من الكف عنهم إذا وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ، أو جاءوكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم . ثم قال جل ثناؤه : " فإن اعتزلوكم " ، يقول : فإن اعتزلكم هؤلاء الذين أمرتكم بالكف عن قتالهم من المنافقين ، بدخولهم في أهل عهدكم ، أو مصيرهم إليكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم " فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم " ، يقول : وصالحوكم .

و "السلم " ، هو الاستسلام . وإنما هذا مثل ، كما يقول الرجل للرجل : "أعطيتك قيادي" ، و "ألقيت إليك خطامي" ، إذا استسلم له وانقاد لأمره . فكذلك قوله : "وألقوا إليكم السلم" ، إنما هو : ألقوا إليكم قيادهم واستسلموا لكم ، صلحا منهم لكم وسلما . ومن "السلم" قول الطرماح :


وذاك أن تميما غادرت سلما للأسد كل حصان وعثة اللبد

[ ص: 24 ]

يعني بقوله : "سلما" ، استسلاما .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

10073 - حدثني المثنى قال : حدثنا ابن أبي جعفر : عن أبيه ، عن الربيع : " فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم " ، قال : الصلح .

وأما قوله : " فما جعل الله لكم عليهم سبيلا " ، فإنه يقول : إذا استسلم لكم هؤلاء المنافقون الذين وصف صفتهم ، صلحا منهم لكم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ، أي : فلم يجعل الله لكم على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم طريقا إلى قتل أو سباء أو غنيمة ، بإباحة منه ذلك لكم ولا إذن ، فلا تعرضوا لهم في ذلك إلا سبيل خير

ثم نسخ الله جميع حكم هذه الآية والتي بعدها بقوله تعالى ذكره : [ ص: 25 ]

( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) إلى قوله : ( فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ) [ سورة التوبة : 5 ] .

ذكر من قال في ذلك مثل الذي قلنا :

10074 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن قالا : قال : ( فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ) إلى قوله : ( وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا ) وقال في "الممتحنة" : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) ، وقال فيها : ( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم ) إلى ( فأولئك هم الظالمون ) [ سورة الممتحنة : 8 ، 9 ] . فنسخ هؤلاء الآيات الأربع في شأن المشركين فقال : ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين ) [ سورة التوبة : 1 ، 2 ] . فجعل لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض ، وأبطل ما كان قبل ذلك . وقال في التي تليها : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ) ، ثم نسخ واستثنى فقال : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ) إلى قوله : ( ثم أبلغه مأمنه ) [ سورة التوبة : 5 ، 6 ] .

10075 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فإن اعتزلوكم " ، قال : نسختها : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) . [ ص: 26 ]

10076 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا همام بن يحيى قال : سمعت قتادة : يقول في قوله : " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق " إلى قوله : " فما جعل الله لكم عليهم سبيلا " ، ثم نسخ ذلك بعد في "براءة" وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقاتل المشركين بقوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ) .

10077 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق " ، الآية ، قال : نسخ هذا كله أجمع ، نسخه الجهاد ، ضرب لهم أجل أربعة أشهر : إما أن يسلموا ، وإما أن يكون الجهاد .

التالي السابق


الخدمات العلمية