الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع )

قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : ذر هؤلاء الذين اتخذوا دين الله وطاعتهم إياه لعبا ولهوا ، فجعلوا حظوظهم من طاعتهم إياه اللعب بآياته ، واللهو والاستهزاء بها إذا سمعوها وتليت عليهم ، فأعرض عنهم ، فإني لهم بالمرصاد ، وإني لهم من وراء الانتقام منهم والعقوبة لهم على ما يفعلون ، وعلى اغترارهم بزينة الحياة الدنيا ، ونسيانهم المعاد إلى الله - تعالى ذكره - والمصير إليه بعد الممات ، كالذي : -

13401 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ) ، قال : كقوله : ( ذرني ومن خلقت وحيدا ) ، [ سورة المدثر : 11 ] .

13402 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله . [ ص: 442 ]

وقد نسخ الله - تعالى ذكره - هذه الآية بقوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ، [ سورة التوبة : 5 ] . وكذلك قال عدد من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

13403 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج بن المنهال قال : حدثنا همام بن يحيى ، عن قتادة : " وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا " ثم أنزل في " سورة براءة " فأمر بقتالهم .

13404 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبدة بن سليمان قال : قرأت على ابن أبي عروبة فقال : هكذا سمعته من قتادة : " وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا " ثم أنزل الله - تعالى ذكره - " براءة " وأمر بقتالهم فقال : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، [ سورة التوبة : 5 ] .

وأما قوله : " وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت " فإنه يعني به : وذكر ، يا محمد ، بهذا القرآن هؤلاء المولين عنك وعنه " أن تبسل نفس " بمعنى : أن لا تبسل ، كما قال : يبين الله لكم أن تضلوا ، [ سورة النساء : 176 ] ، بمعنى : أن لا تضلوا وإنما معنى الكلام : وذكرهم به ليؤمنوا ويتبعوا ما جاءهم من عند الله من الحق ، فلا تبسل أنفسهم بما كسبت من الأوزار ولكن حذفت " لا " لدلالة الكلام عليها .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " أن تبسل نفس " .

فقال بعضهم : معنى ذلك : أن تسلم . [ ص: 443 ]

ذكر من قال ذلك :

13405 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة قوله : " أن تبسل نفس بما كسبت " قال : تسلم .

13406 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : " أن تبسل نفس " قال : أن تسلم .

13407 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن مثله .

13408 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله - تعالى ذكره - : " أن تبسل " قال : تسلم .

13409 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " أن تبسل نفس " قال : تسلم .

13410 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد : أولئك الذين أبسلوا ، أسلموا .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : تحبس .

ذكر من قال ذلك :

13411 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : " أن تبسل نفس " قال : تؤخذ فتحبس .

13412 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة مثله .

13413 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في [ ص: 444 ] قوله : " أن تبسل نفس بما كسبت " أن تؤخذ نفس بما كسبت .

وقال آخرون : معناه : تفضح .

ذكر من قال ذلك :

13414 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت " يقول : تفضح .

وقال آخرون : معناه : أن تجزى .

ذكر من قال ذلك :

13415 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا الحسين بن واقد قال قال الكلبي : " أن تبسل " أن تجزى .

وأصل " الإبسال " التحريم ، يقال منه : " أبسلت المكان " إذا حرمته فلم يقرب ، ومنه قول الشاعر :


بكرت تلومك بعد وهن في الندى ، بسل عليك ملامتي وعتابي

[ ص: 445 ]

أي : حرام [ عليك ملامتي وعتابي ] . ومنه قولهم : " أسد باسل " ويراد به : لا يقربه شيء ، فكأنه قد حرم نفسه ، ثم يجعل ذلك صفة لكل شديد يتحامى لشدته . ويقال : " أعط الراقي بسلته " يراد بذلك : أجرته ، " وشراب بسيل " بمعنى متروك . وكذلك " المبسل بالجريرة " وهو المرتهن بها ، قيل له : " مبسل " لأنه محرم من كل شيء إلا مما رهن فيه وأسلم به ، ومنه قول عوف بن الأحوص الكلابي :


وإبسالي بني بغير جرم     بعوناه ولا بدم مراق

[ ص: 446 ]

وقال الشنفرى :


هنالك لا أرجو حياة تسرني     سمير الليالي مبسلا بالجرائر



قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذا : وذكر بالقرآن هؤلاء الذين يخوضون في آياتنا وغيرهم ممن سلك سبيلهم من المشركين ، كيلا تبسل نفس بذنوبها وكفرها بربها ، وترتهن فتغلق بما كسبت من إجرامها في عذاب الله " ليس لها من دون الله " يقول : ليس لها ، حين تسلم بذنوبها فترتهن بما كسبت من آثامها ، أحد ينصرها فينقذها من الله الذي جازاها بذنوبها جزاءها " ولا شفيع " يشفع لها ، لوسيلة له عنده .

التالي السابق


الخدمات العلمية