الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 140 ] القول في تأويل قوله ( واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : واختار موسى من قومه سبعين رجلا للوقت والأجل الذي وعده الله أن يلقاه فيه بهم ، للتوبة مما كان من فعل سفهائهم في أمر العجل ، كما : -

15152 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : إن الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل ، يعتذرون إليه من عبادة العجل ، ووعدهم موعدا ، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه ، ثم ذهب بهم ليعتذروا . فلما أتوا ذلك المكان قالوا : لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة ، فإنك قد كلمته ، فأرناه! فأخذتهم الصاعقة فماتوا ، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول : رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم ، لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي !

15153 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخير فالخير ، وقال : انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم ، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، صوموا وتطهروا ، وطهروا ثيابكم! فخرج بهم إلى طور سيناء ، لميقات وقته له ربه . وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم . فقال السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به ، وخرجوا معه للقاء ربه ، لموسى : اطلب لنا نسمع كلام ربنا! فقال : أفعل . فلما دنا موسى من الجبل ، وقع عليه عمود الغمام ، حتى تغشى الجبل كله . ودنا موسى فدخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا! وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور [ ص: 141 ] ساطع ، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه! فضرب دونه بالحجاب . ودنا القوم ، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا ، فسمعوه وهو يكلم موسى ، يأمره وينهاه : افعل ، ولا تفعل! فلما فرغ الله من أمره ، انكشف عن موسى الغمام . فأقبل إليهم ، فقالوا لموسى : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ! فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فافتلتت أرواحهم ، فماتوا جميعا ، وقام موسى عليه السلام يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ، ويقول : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي! قد سفهوا! أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل؟

15154 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : " واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا " ، قال : كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختار سبعين رجلا فبرز بهم ليدعوا ربهم . فكان فيما دعوا الله قالوا : اللهم أعطنا ما لم تعط أحدا بعدنا! فكره الله ذلك من دعائهم ، فأخذتهم الرجفة . قال موسى : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي!

15155 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا خالد بن حيان ، عن جعفر ، عن ميمون : " واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا " ، قال : لموعدهم الذي وعدهم .

15156 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " سبعين رجلا لميقاتنا " ، قال : اختارهم لتمام الوعد .

وقال آخرون : إنما أخذتهم الرجفة من أجل دعواهم على موسى قتل هارون . [ ص: 142 ]

ذكر من قال ذلك :

15157 - حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا : حدثنا يحيى بن يمان قال ، حدثنا سفيان قال ، حدثني أبو إسحاق ، عن عمارة بن عبد السلولي ، عن علي رضي الله عنه قال : انطلق موسى وهارون وشبر وشبير ، فانطلقوا إلى سفح جبل ، فنام هارون على سرير ، فتوفاه الله . فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له : أين هارون؟ قال : توفاه الله . قالوا : أنت قتلته ، حسدتنا على خلقه ولينه أو كلمة نحوها قال : فاختاروا من شئتم! قال : فاختاروا سبعين رجلا . قال : فذلك قوله : " واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا " ، قال : فلما انتهوا إليه ، قالوا : يا هارون ، من قتلك؟ قال : ما قتلني أحد ، ولكنني توفاني الله! قالوا : يا موسى لن تعصى بعد اليوم! قال : فأخذتهم الرجفة . قال : فجعل موسى يرجع يمينا وشمالا وقال يا : " رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " ، قال : فأحياهم الله وجعلهم أنبياء كلهم .

15158 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من بني سلول ، أنه سمع عليا رضي الله عنه يقول في هذه الآية : " واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا " ، قال : كان هارون [ ص: 143 ] حسن الخلق محببا في بني إسرائيل . قال : فلما مات ، دفنه موسى . قال : فلما أتى بني إسرائيل ، قالوا له : أين هارون؟ قال : مات! فقالوا : قتلته! قال : فاختار منهم سبعين رجلا . قال : فلما أتوا القبر قال موسى : أقتلت أو مت! قال مت! فأصعقوا ، فقال موسى : رب ما أقول لبني إسرائيل؟ إذا رجعت يقولون : أنت قتلتهم! قال : فأحيوا وجعلوا أنبياء .

15159 - حدثني عبد الله بن الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا الربيع بن حبيب قال : سمعت أبا سعيد يعني الرقاشي وقرأ هذه الآية : " واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا " ، فقال : كانوا أبناء ما عدا عشرين ، ولم يتجاوزوا الأربعين ، وذلك أن ابن عشرين قد ذهب جهله وصباه ، وأن من لم يتجاوز الأربعين لم يفقد من عقله شيئا .

وقال آخرون : إنما أخذت القوم الرجفة ، لتركهم فراق عبدة العجل ، لا لأنهم كانوا من عبدته .

ذكر من قال ذلك :

15160 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا " ، فقرأ حتى بلغ : "السفهاء منا" ، ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : إنما تناولتهم الرجفة ، لأنهم لم يزايلوا [ ص: 144 ] القوم حين نصبوا العجل ، وقد كرهوا أن يجامعوهم عليه .

15161 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا " ، ممن لم يكن قال ذلك القول ، على أنهم لم يجامعوهم عليه ، فأخذتهم الرجفة من أجل أنهم لم يكونوا باينوا قومهم حين اتخذوا العجل . قال : فلما خرجوا ودعوا ، أماتهم الله ثم أحياهم . فلما أخذتهم الرجفة قال : " رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " .

15162 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو سعد قال ، قال مجاهد : " واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا " و"الميقات" ، الموعد فلما أخذتهم الرجفة بعد أن خرج موسى بالسبعين من قومه يدعون الله ويسألونه أن يكشف عنهم البلاء فلم يستجب لهم ، علم موسى أنهم قد أصابوا من المعصية ما أصابه قومهم قال أبو سعد فحدثني محمد بن كعب القرظي قال : لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ويأمروهم بالمعروف . قال : فأخذتهم الرجفة ، فماتوا ثم أحياهم الله .

15163 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن عون ، عن سعيد بن حيان ، عن ابن عباس : أن السبعين الذين اختارهم موسى من قومه ، إنما أخذتهم الرجفة ، أنهم لم يرضوا ولم ينهوا عن العجل .

15164 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا عون قال ، حدثنا سعيد بن حيان ، عن ابن عباس ، بنحوه .

واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله : " قومه سبعين رجلا لميقاتنا " . فقال بعض نحويي البصرة : معناه : واختار موسى من قومه سبعين رجلا فلما نزع "من" أعمل الفعل ، كما قال الفرزدق : [ ص: 145 ]


ومنا الذي اختير الرجال سماحة وجودا ، إذا هب الرياح الزعازع



وكما قال الآخر :


أمرتك الخير ، فافعل ما أمرت به     فقد تركتك ذا مال وذا نشب

[ ص: 146 ]

وقال الراعي :


اخترتك الناس إذ غثت خلائقهم     واعتل من كان يرجى عنده السول



وقال بعض نحويي الكوفة : إنما استجيز وقوع الفعل عليهم إذا طرحت "من" ، لأنه مأخوذ من قولك : "هؤلاء خير القوم" و"خير من القوم" ، فلما جازت الإضافة مكان "من" ولم يتغير المعنى ، استجازوا : أن يقولوا : "اخترتكم رجلا" ، و"اخترت منكم رجلا" ، وقد قال الشاعر :


فقلت له : اخترها قلوصا سمينة

[ ص: 147 ]

وقال الراجز :


تحت التي اختار له الله الشجر



بمعنى : اختارها له الله من الشجر .

قال أبو جعفر : وهذا القول الثاني أولى عندي في ذلك بالصواب ، لدلالة "الاختيار" على طلب "من" التي بمعنى التبعيض ، ومن شأن العرب أن تحذف الشيء من حشو الكلام إذا عرف موضعه ، وكان فيما أظهرت دلالة على ما حذفت . فهذا من ذلك إن شاء الله . [ ص: 148 ]

وقد بينا معنى "الرجفة" فيما مضى بشواهدها ، وأنها : ما رجف بالقوم وزعزعهم وحركهم ، أهلكهم بعد فأماتهم ، أو أصعقهم ، فسلب أفهامهم .

وقد ذكرنا الرواية في غير هذا الموضع وقول من قال : إنها كانت صاعقة أماتتهم .

15165 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فلما أخذتهم الرجفة " ، ماتوا ثم أحياهم .

15166 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " سبعين رجلا لميقاتنا " ، اختارهم موسى لتمام الموعد " فلما أخذتهم الرجفة " ، ماتوا ثم أحياهم الله .

15167 - حدثني عبد الكريم قال ، حدثنا إبراهيم قال ، حدثنا سفيان قال ، قال أبو سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : " فلما أخذتهم الرجفة " ، قال : رجف بهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية