الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( " 79 979 " الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ( 79 ) )

قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - : الذين يلمزون المطوعين في الصدقة على أهل المسكنة والحاجة ، بما لم يوجبه الله عليهم في أموالهم ، ويطعنون فيها عليهم [ ص: 382 ] بقولهم : " إنما تصدقوا به رياء وسمعة ، ولم يريدوا وجه الله " ويلمزون الذين لا يجدون ما يتصدقون به إلا جهدهم ، وذلك طاقتهم ، فينتقصونهم ويقولون : " لقد كان الله عن صدقة هؤلاء غنيا " سخرية منهم بهم ( فيسخرون منهم سخر الله منهم ) .

وقد بينا صفة " سخرية الله " بمن يسخر به من خلقه في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته هاهنا .

( ولهم عذاب أليم ) يقول : ولهم من عند الله يوم القيامة عذاب موجع مؤلم .

وذكر أن المعني بقوله : ( المطوعين من المؤمنين ) عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدي الأنصاري وأن المعني بقوله : ( والذين لا يجدون إلا جهدهم ) أبو عقيل الأراشي أخو بني أنيف .

ذكر من قال ذلك :

17003 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام ، فقال بعض المنافقين : والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء ، وقالوا : إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع .

[ ص: 383 ] 17004 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم ) وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الناس يوما فنادى فيهم : أن أجمعوا صدقاتكم ، فجمع الناس صدقاتهم . ثم جاء رجل من آخرهم بمن من تمر . فقال : يا رسول الله ، هذا صاع من تمر ، بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر ، فأمسكت أحدهما ، وأتيتك بالآخر . فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينثره في الصدقات . فسخر منه رجال وقالوا : والله إن الله ورسوله لغنيان عن هذا ، وما يصنعان بصاعك من شيء " . ثم إن عبد الرحمن بن عوف رجل من قريش من بني زهرة ، قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل بقي من أحد من أهل هذه الصدقات ؟ فقال : لا ، فقال عبد الرحمن بن عوف : إن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات . فقال له عمر بن الخطاب : أمجنون أنت ؟ فقال : ليس بي جنون ! فقال : فعلمنا ما قلت ؟ قال : نعم . مالي ثمانية آلاف ، أما أربعة آلاف فأقرضها ربي ، وأما أربعة آلاف فلي . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت . وكره المنافقون فقالوا : " والله ما أعطى عبد الرحمن عطيته إلا رياء " . وهم كاذبون ، إنما كان به متطوعا . فأنزل الله عذره وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر ، فقال الله في كتابه : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) الآية . [ ص: 384 ] 17005 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو أسامة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين ) قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بصدقة ماله أربعة آلاف ، فلمزه المنافقون وقالوا : " راءى " ( والذين لا يجدون إلا جهدهم ) قال : رجل من الأنصار آجر نفسه بصاع من تمر لم يكن له غيره ، فجاء به فلمزوه ، وقالوا : كان الله غنيا عن صاع هذا .

17006 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد نحوه .

17007 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد نحوه .

17008 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : قوله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين ) الآية ، قال : أقبل عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله ، فتقرب به إلى الله ، فلمزه المنافقون فقالوا : ما أعطى ذلك إلا رياء وسمعة . فأقبل رجل من فقراء المسلمين يقال له " حبحاب أبو عقيل " [ ص: 385 ] فقال : يا نبي الله ، بت أجر الجرير على صاعين من تمر ، أما صاع فأمسكته لأهلي ، وأما صاع فها هو ذا . فقال المنافقون : " والله إن الله ورسوله لغنيان عن هذا " . فأنزل الله في ذلك القرآن : ( الذين يلمزون ) الآية .

17009 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن قتادة : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) قال : تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله ، وكان ماله ثمانية آلاف دينار ، فتصدق بأربعة آلاف دينار ، فقال ناس من المنافقين : إن عبد الرحمن بن عوف لعظيم الرياء . فقال الله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) وكان لرجل صاعان من تمر ، فجاء بأحدهما ، فقال ناس من المنافقين : إن [ ص: 386 ] كان الله عن صاع هذا لغنيا ! فكان المنافقون يطعنون عليهم ويسخرون بهم . فقال الله : ( والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ) .

17010 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال الأنماطي قال : حدثنا أبو عوانة عن [ عمر بن ] أبي سلمة عن أبيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : تصدقوا ، فإني أريد أن أبعث بعثا . قال : فقال عبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله ، إن عندي أربعة آلاف ، ألفين أقرضهما الله ، وألفين لعيالي . قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بارك الله لك فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أمسكت . فقال رجل من الأنصار : وإن عندي صاعين من تمر ، صاعا لربي ، وصاعا لعيالي . قال : فلمز المنافقون وقالوا : ما أعطى ابن عوف هذا إلا رياء . وقالوا : أولم يكن الله غنيا عن صاع هذا ؟ ! فأنزل الله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين ) إلى آخر الآية .

17011 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرحمن [ ص: 387 ] بن سعد قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس في قوله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) قال : أصاب الناس جهد شديد ، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتصدقوا ، فجاء عبد الرحمن بأربعمائة أوقية ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم بارك له فيما أمسك . فقال المنافقون : ما فعل عبد الرحمن هذا إلا رياء وسمعة . قال : وجاء رجل بصاع من تمر ، فقال : يا رسول الله آجرت نفسي بصاعين ، فانطلقت بصاع منهما إلى أهلي ، وجئت بصاع من تمر . فقال المنافقون : إن الله غني عن صاع هذا . فأنزل الله هذه الآية : ( والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ) .

17012 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) الآية ، وكان المطوعون من المؤمنين في الصدقات عبد الرحمن بن عوف تصدق بأربعة آلاف دينار وعاصم بن عدي أخا بني العجلان ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغب في الصدقة ، وحض عليها ، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف درهم ، وقام عاصم بن عدي فتصدق بمائة وسق من تمر ، فلمزوهما وقالوا : ما هذا إلا رياء . وكان الذي تصدق بجهده : أبو عقيل - أخو بني أنيف - الأراشي حليف بني عمرو بن عوف ، أتى بصاع من تمر فأفرغه في الصدقة ، فتضاحكوا به وقالوا : إن الله لغني عن صاع أبي عقيل . [ ص: 388 ] 17013 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله قال : حدثنا شعبة عن سليمان عن أبي وائل عن أبي مسعود قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل قال أبو النعمان : كنا نعمل . قال : فجاء رجل فتصدق بشيء كثير . قال : وجاء رجل فتصدق بصاع تمر ، فقالوا : إن الله لغني عن صاع هذا . فنزلت : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم ) .

17014 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا زيد بن حباب عن موسى بن عبيدة قال : حدثني خالد بن يسار عن ابن أبي عقيل عن أبيه قال : بت أجر الجرير على ظهري على صاعين من تمر فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به ، وجئت بالآخر أتقرب به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته ، فقال : انثره في الصدقة . فسخر المنافقون منه . وقالوا : [ ص: 389 ] لقد كان الله غنيا عن صدقة هذا المسكين . فأنزل الله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) الآيتين .

17015 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال : أخبرنا الجريري عن أبي السليل قال : وقف على الحي رجل ، فقال : حدثني أبي أو عمي فقال : شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : من يتصدق اليوم بصدقة أشهد له بها عند الله يوم القيامة ؟ قال : وعلي عمامة لي . قال : فنزعت لوثا أو لوثين لأتصدق بهما ، قال : ثم أدركني ما يدرك ابن آدم ، فعصبت بها رأسي . قال : فجاء [ ص: 390 ] رجل لا أرى بالبقيع رجلا أقصر قمة ، ولا أشد سوادا ، ولا أدم بعين منه ، يقود ناقة لا أرى بالبقيع أحسن منها ولا أجمل منها . قال : أصدقة هي يا رسول الله ؟ قال : نعم . قال : فدونكها ، فألقى بخطامها أو بزمامها . قال : فلمزه رجل جالس فقال : والله إنه ليتصدق بها ، ولهي خير منه ، فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : بل هو خير منك ومنها . يقول ذلك ثلاثا - صلى الله عليه وسلم - .

17016 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك يقول : الذي تصدق بصاع التمر فلمزه المنافقون : " أبو خيثمة الأنصاري " . [ ص: 391 ] 17017 - حدثني المثنى قال : حدثنا محمد بن رجاء أبو سهل العباداني قال : حدثنا عامر بن يساف اليمامي عن يحيى بن أبي كثير اليمامي قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله مالي ثمانية آلاف جئتك بأربعة آلاف ، فاجعلها في سبيل الله ، وأمسكت أربعة آلاف لعيالي . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بارك الله فيما أعطيت وفيما أمسكت . وجاء رجل آخر فقال : يا رسول الله ، بت الليلة أجر الماء على صاعين ، فأما أحدهما فتركت لعيالي وأما الآخر فجئتك به أجعله في سبيل الله ، فقال : بارك الله فيما أعطيت وفيما أمسكت . فقال ناس من المنافقين : والله ما أعطى عبد الرحمن إلا رياء وسمعة ، ولقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع فلان ، فأنزل الله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) يعني عبد الرحمن بن عوف : ( والذين لا يجدون إلا جهدهم ) يعني صاحب الصاع ( فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ) .

17018 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال : قال ابن عباس : أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين أن يجمعوا صدقاتهم ، وإذا عبد الرحمن بن عوف قد جاء بأربعة آلاف ، فقال : هذا مالي أقرضه الله ، وقد بقي لي مثله . فقال له : بورك لك فيما أعطيت وفيما أمسكت . فقال المنافقون : ما أعطى إلا رياء ، وما أعطى صاحب الصاع إلا رياء ، إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا . وما يصنع الله بصاع من شيء " . [ ص: 392 ] 17019 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) إلى قوله : ( ولهم عذاب أليم ) قال : أمر النبي - عليه الصلاة والسلام - المسلمين أن يتصدقوا ، فقام عمر بن الخطاب : فألفى ذلك مالي وافرا ، فآخذ نصفه .

قال : فجئت أحمل مالا كثيرا . فقال له رجل من المنافقين : ترائي يا عمر ؟ فقال : نعم ، أرائي الله ورسوله ، وأما غيرهما فلا . قال : ورجل من الأنصار لم يكن عنده شيء ، فواجر نفسه ليجر الجرير على رقبته بصاعين ليلته ، فترك صاعا لعياله ، وجاء بصاع يحمله ، فقال له بعض المنافقين : إن الله ورسوله عن صاعك لغنيان . فذلك قول الله تبارك وتعالى : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم ) هذا الأنصاري ( فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم )
.

وقد بينا معنى " اللمز " في كلام العرب بشواهده وما فيه من اللغة والقراءة فيما مضى .

وأما قوله : ( المطوعين ) فإن معناه : المتطوعين ، أدغمت التاء في [ ص: 393 ] الطاء ، فصارت طاء مشددة ، كما قيل : " ومن يطوع خيرا " . [ سورة البقرة : 158 ] يعني : يتطوع .

وأما " الجهد " فإن للعرب فيه لغتين . يقال : " أعطاني من جهده " بضم الجيم ، وذلك - فيما ذكر - لغة أهل الحجاز ومن " جهده " بفتح الجيم ، وذلك لغة نجد .

وعلى الضم قراءة الأمصار ، وذلك هو الاختيار عندنا ؛ لإجماع الحجة من القرأة عليه .

وأما أهل العلم بكلام العرب من رواة الشعر وأهل العربية ، فإنهم يزعمون أنها مفتوحة ومضمومة بمعنى واحد ، وإنما اختلاف ذلك لاختلاف اللغة فيه ، كما اختلفت لغاتهم في " الوجد " " والوجد " بالضم والفتح من : " وجدت " .

وروي عن الشعبي في ذلك ما : -

17020 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جابر بن نوح عن عيسى بن المغيرة عن الشعبي قال : " الجهد " " والجهد " الجهد في العمل ، والجهد في القوت .

17021 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا حفص عن عيسى بن المغيرة عن الشعبي مثله . [ ص: 394 ] 17022 - . . . . . . قال : حدثنا ابن إدريس عن عيسى بن المغيرة عن الشعبي قال : الجهد في العمل ، والجهد في القيتة .

التالي السابق


الخدمات العلمية