الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ( 76 ) )

قال أبو جعفر : يعني بقوله : ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض ) أي : إذا خلا بعض هؤلاء اليهود - الذين وصف الله صفتهم - إلى بعض منهم ، فصاروا في خلاء من الناس غيرهم ، وذلك هو الموضع الذي ليس فيه غيرهم - " قالوا " يعني : قال بعضهم لبعض - : " أتحدثونهم بما فتح الله عليكم " .

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( بما فتح الله عليكم ) . فقال بعضهم بما : -

1339 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن [ ص: 251 ] عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، يعني : بما أمركم الله به . فيقول الآخرون : إنما نستهزئ بهم ونضحك .

وقال آخرون بما : -

1340 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، أي : بصاحبكم رسول الله ، ولكنه إليكم خاصة ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : لا تحدثوا العرب بهذا ، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم ، فكان منهم . فأنزل الله : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) ، أي : تقرون بأنه نبي ، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه ، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجده في كتابنا ؟ اجحدوه ولا تقروا لهم به . يقول الله : ( أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) .

1341 - حدثني المثنى قال ، حدثنا آدم قال ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، أي بما أنزل الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم .

1342 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : ( قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، أي : بما من الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنكم إذا فعلتم ذلك احتجوا به عليكم ، ( أفلا تعقلون ) .

[ ص: 252 ] 1343 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، ليحتجوا به عليكم .

1344 - حدثني المثنى قال ، حدثني آدم قال ، حدثنا أبو جعفر قال ، قال قتادة : ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، يعني : بما أنزل الله عليكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته .

وقال آخرون في ذلك بما : -

1345 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) قال : قول يهود بني قريظة ، حين سبهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم إخوة القردة والخنازير ، قالوا : من حدثك ؟ هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا ، فقال : يا إخوة القردة والخنازير .

1346 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله - إلا أنه قال : هذا ، حين أرسل إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وآذوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " اخسئوا يا إخوة القردة والخنازير " .

1347 - حدثنا القاسم قال ، حدثني الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، [ ص: 253 ] قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم فقال : " يا إخوان القردة ، ويا إخوان الخنازير ، ويا عبدة الطاغوت . فقالوا : من أخبر هذا محمدا ؟ ما خرج هذا إلا منكم ! ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ! بما حكم الله ، للفتح ، ليكون لهم حجة عليكم . قال ابن جريج ، عن مجاهد : هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا صلى الله عليه وسلم .

وقال آخرون بما : -

1348 - حدثنا موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : ( قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) - من العذاب - " ليحاجوكم به عند ربكم " هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا ، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به ، فقال بعضهم لبعض : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب ، ليقولوا نحن أحب إلى الله منكم ، وأكرم على الله منكم ؟



وقال آخرون بما : -

1349 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) : قال : كانوا إذا سئلوا عن الشيء قالوا : أما تعلمون في التوراة كذا وكذا ؟ قالوا : بلى ! - قال : وهم يهود - فيقول لهم رؤساؤهم الذين يرجعون إليهم : ما لكم تخبرونهم بالذي أنزل الله عليكم فيحاجوكم به عند ربكم ؟ أفلا تعقلون ؟ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن . فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق : اذهبوا فقولوا آمنا ، واكفروا إذا رجعتم . قال : فكانوا يأتون المدينة بالبكر ويرجعون إليهم بعد العصر وقرأ قول الله : ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ) [ آل عمران : 72 ] . وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة : نحن مسلمون . ليعلموا خبر رسول الله صلى الله [ ص: 254 ] عليه وسلم وأمره ، فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر . فلما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بهم ، قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون وكان المؤمنون الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يظنون أنهم مؤمنون ، فيقولون لهم : أليس قد قال الله لكم كذا وكذا ؟ فيقولون : بلى ! فإذا رجعوا إلى قومهم [ يعني الرؤساء ] - قالوا : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم " ، الآية .

وأصل " الفتح " في كلام العرب : النصر والقضاء ، والحكم . يقال منه : " اللهم افتح بيني وبين فلان " ، أي احكم بيني وبينه ، ومنه قول الشاعر :


ألا أبلغ بني عصم رسولا بأني عن فتاحتكم غني

قال أبو جعفر : قال : ويقال للقاضي : " الفتاح " ومنه قول الله عز وجل : ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ) [ الأعراف : 89 ] أي احكم بيننا وبينهم .

فإذا كان معنى الفتح ما وصفنا ، تبين أن معنى قوله : ( قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) إنما هو أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم ، وقضاه فيكم ؟ ومن حكمه جل ثناؤه عليهم ما أخذ به ميثاقهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به في التوراة . ومن قضائه فيهم أن جعل منهم القردة والخنازير ، وغير ذلك من أحكامه وقضائه فيهم . وكل ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به حجة على المكذبين من اليهود [ ص: 255 ] المقرين بحكم التوراة ، وغير ذلك [ من أحكامه وقضائه ] .

فإذ كان كذلك . فالذي هو أولى عندي بتأويل الآية قول من قال : معنى ذلك : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى خلقه ؟ لأن الله جل ثناؤه إنما قص في أول هذه الآية الخبر عن قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه : آمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ; فالذي هو أولى بآخرها أن يكون نظير الخبر عما ابتدئ به أولها .

وإذا كان ذلك كذلك ، فالواجب أن يكون تلاومهم كان فيما بينهم فيما كانوا أظهروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه من قولهم لهم : آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به . وكان قيلهم ذلك ، من أجل أنهم يجدون ذلك في كتبهم ، وكانوا يخبرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك . فكان تلاومهم - فيما بينهم إذا خلوا - على ما كانوا يخبرونهم بما هو حجة للمسلمين عليهم عند ربهم . وذلك أنهم كانوا يخبرونهم عن وجود نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم ، ويكفرون به ، وكان فتح الله الذي فتحه للمسلمين على اليهود ، وحكمه عليهم لهم في كتابهم ، أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث . فلما بعث كفروا به ، مع علمهم بنبوته .

قال أبو جعفر : وقوله : ( أفلا تعقلون ) ، خبر من الله تعالى ذكره - عن اليهود اللائمين إخوانهم على ما أخبروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فتح الله لهم عليهم - أنهم قالوا لهم : أفلا تفقهون أيها القوم وتعقلون ، أن إخباركم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبكم أنه نبي مبعوث ، حجة لهم عليكم عند ربكم ، يحتجون بها عليكم ؟ أي : فلا تفعلوا ذلك ، ولا تقولوا لهم مثل ما قلتم ، ولا تخبروهم [ ص: 256 ] بمثل ما أخبرتموهم به من ذلك . فقال جل ثناؤه : ( أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية