الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 469 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار ( 35 ) )

قال أبو جعفر : اختلف أهل العلم بكلام العرب في مرافع "المثل"

فقال بعض نحويي الكوفيين : الرافع للمثل قوله : ( تجري من تحتها الأنهار ) ، في المعنى ، وقال : هو كما تقول : "حلية فلان ، أسمر كذا وكذا" فليس "الأسمر" بمرفوع بالحلية ، إنما هو ابتداء ، أي هو أسمر هو كذا . قال : ولو دخل "أن" في مثل هذا كان صوابا . قال : ومثله في الكلام : "مثلك أنك كذا وأنك كذا" وقوله : ( فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا ) [ سورة عبس : 24 ، 25 ] من وجه ، ( مثل الجنة التي وعد المتقون فيها ) ، ومن قال : ( أنا صببنا الماء ) ، أظهر الاسم لأنه مردود على "الطعام" بالخفض ، ومستأنف ، أي : طعامه أنا صببنا ثم فعلنا . وقال : معنى قوله : ( مثل الجنة ) ، صفات الجنة .

وقال بعض نحويي البصريين : معنى ذلك : صفة الجنة قال : ومنه قول الله تعالى : ( وله المثل الأعلى ) [ سورة الروم : 27 ] معناه : ولله الصفة العليا . قال : فمعنى الكلام في قوله : ( مثل الجنة التي وعد المتقون تجرى من تحتها الأنهار ) ، أو فيها أنهار ، كأنه قال : وصف الجنة صفة تجري من تحتها الأنهار ، أو صفة فيها أنهار ، والله أعلم .

[ ص: 470 ] قال : ووجه آخر كأنه إذا قيل : ( مثل الجنة ) ، قيل : الجنة التي وعد المتقون . قال : وكذلك قوله : ( وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) [ سورة النمل : 30 ] كأنه قال : بالله الرحمن الرحيم ، والله أعلم .

قال : وقوله : ( على ما فرطت في جنب الله ) [ سورة الزمر : 56 ] في ذات الله ، كأنه عندنا قيل : في الله .

قال : وكذلك قوله : ( ليس كمثله شيء ) [ سورة الشورى : 11 ] إنما المعنى : ليس كشيء ، وليس مثله شيء؛ لأنه لا مثل له . قال : وليس هذا كقولك للرجل : "ليس كمثلك أحد "؛ لأنه يجوز أن يكون له مثل ، والله لا يجوز ذلك عليه . قال : ومثله قول لبيد :


إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

قال : وفسر لنا أنه أراد : السلام عليكما .

قال أوس بن حجر :


وقتلى كرام كمثل الجذوع     تغشاهم سبل منهمر

قال : والمعنى عندنا : كالجذوع؛ لأنه لم يرد أن يجعل للجذوع مثلا ثم يشبه القتلى به . قال : ومثله قول أمية :


زحل وثور تحت رجل يمينه     والنسر للأخرى وليث مرصد

[ ص: 471 ] قال فقال : "تحت رجل يمينه" كأنه قال : تحت رجله ، أو تحت رجله اليمنى . قال : وقول لبيد :


أضل صواره وتضيفته     نطوف أمرها بيد الشمال

كأنه قال : أمرها بالشمال ، وإلى الشمال؛ وقول لبيد أيضا :


حتى إذا ألقت يدا في كافر

فكأنه قال : حتى وقعت في كافر .

وقال آخر منهم : هو من المكفوف عن خبره . قال : والعرب تفعل ذلك . قال : وله معنى آخر : ( للذين استجابوا لربهم الحسنى ) ، مثل الجنة ، موصول ، صفة لها على الكلام الأول .

[ ص: 472 ] قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال ذكر المثل ، فقال ( مثل الجنة ) ، والمراد الجنة ، ثم وصفت الجنة بصفتها ، وذلك أن مثلها إنما هو صفتها وليست صفتها شيئا غيرها . وإذ كان ذلك كذلك ، ثم ذكر "المثل" فقيل : ( مثل الجنة ) ، ومثلها صفتها وصفة الجنة ، فكان وصفها كوصف "المثل" وكان كأن الكلام جرى بذكر الجنة ، فقيل : الجنة تجري من تحتها الأنهار ، كما قال الشاعر :


أرى مر السنين أخذن مني     كما أخذ السرار من الهلال

فذكر "المر" ورجع في الخبر إلى "السنين" .

وقوله : ( أكلها دائم وظلها ) ، يعني ما يؤكل فيها ، يقول : هو دائم لأهلها ، لا ينقطع عنهم ، ولا يزول ولا يبيد ، ولكنه ثابت إلى غير نهاية ( وظلها ) ، يقول : وظلها أيضا دائم؛ لأنه لا شمس فيها .

( تلك عقبى الذين اتقوا ) ، يقول : هذه الجنة التي وصف جل ثناؤه ، عاقبة الذين اتقوا الله ، فاجتنبوا معاصيه وأدوا فرائضه .

وقوله : ( وعقبى الكافرين النار ) ، يقول : وعاقبة الكافرين بالله النار .

التالي السابق


الخدمات العلمية