الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ( 97 ) )

يقول تعالى ذكره : من عمل بطاعة الله ، وأوفى بعهود الله إذا عاهد من ذكر أو أنثى من بني آدم وهو مؤمن : يقول : وهو مصدق بثواب الله الذي وعد أهل طاعته على الطاعة ، وبوعيد أهل معصيته على المعصية ( فلنحيينه حياة طيبة ) .

واختلف أهل التأويل في الذي عنى الله بالحياة الطيبة التي وعد هؤلاء القوم أن يحييهموها ، فقال بعضهم : عنى أنه يحييهم في الدنيا ما عاشوا فيها بالرزق الحلال .

ذكر من قال ذلك :

حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن [ ص: 290 ] إسماعيل بن سميع عن أبي مالك وأبي الربيع ، عن ابن عباس ، بنحوه .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي الربيع ، عن ابن عباس ، في قوله ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ) قال : الرزق الحسن في الدنيا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي الربيع ، عن ابن عباس ( فلنحيينه حياة طيبة ) قال : الرزق الطيب في الدنيا .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ) يعني في الدنيا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن مطرف ، عن الضحاك ( فلنحيينه حياة طيبة ) قال : الرزق الطيب الحلال .

حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا عون بن سلام القرشي ، قال : أخبرنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، في قوله ( فلنحيينه حياة طيبة ) قال : يأكل حلالا ويلبس حلالا .

وقال آخرون ( فلنحيينه حياة طيبة ) بأن نرزقه القناعة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن المنهال بن خليفة ، عن أبي خزيمة سليمان التمار ، عمن ذكره عن علي ( فلنحيينه حياة طيبة ) قال : القنوع .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو عصام ، عن أبي سعيد ، عن الحسن البصري ، قال : الحياة الطيبة : القناعة .

وقال آخرون : بل يعني بالحياة الطيبة الحياة مؤمنا بالله عاملا بطاعته .

ذكر من قال ذلك : حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( فلنحيينه حياة طيبة ) [ ص: 291 ] يقول : من عمل عملا صالحا وهو مؤمن في فاقة أو ميسرة ، فحياته طيبة ، ومن أعرض عن ذكر الله فلم يؤمن ولم يعمل صالحا ، عيشته ضنكة لا خير فيها .

وقال آخرون : الحياة الطيبة السعادة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى وعلي بن داود ، قالا ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( فلنحيينه حياة طيبة ) قال : السعادة .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : الحياة في الجنة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا هوذة ، عن عوف ، عن الحسن ( فلنحيينه حياة طيبة ) قال : لا تطيب لأحد حياة دون الجنة .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن عوف ، عن الحسن ( فلنحيينه حياة طيبة ) قال : ما تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ) فإن الله لا يشاء عملا إلا في إخلاص ، ويوجب من عمل ذلك في إيمان ، قال الله تعالى ( فلنحيينه حياة طيبة ) وهي الجنة .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ( فلنحيينه حياة طيبة ) قال : الآخرة يحييهم حياة طيبة في الآخرة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ) قال : الحياة الطيبة في الآخرة : هي الجنة ، تلك الحياة الطيبة ، قال ( ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) وقال : ألا تراه يقول ( يا ليتني قدمت لحياتي ) قال : هذه آخرته . وقرأ أيضا ( وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ) قال : الآخرة دار حياة لأهل النار وأهل الجنة ، ليس فيها موت لأحد من الفريقين .

حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ) قال : الإيمان : الإخلاص لله وحده ، فبين أنه لا يقبل عملا إلا بالإخلاص له .

وأولى الأقوال بالصواب قول من قال : تأويل ذلك : فلنحيينه حياة طيبة بالقناعة ، وذلك أن من قنعه الله بما قسم له من رزق لم يكثر للدنيا تعبه ، ولم [ ص: 292 ] يعظم فيها نصبه ولم يتكدر فيها عيشه باتباعه بغية ما فاته منها وحرصه على ما لعله لا يدركه فيها .

وإنما قلت ذلك أولى التأويلات في ذلك بالآية ، لأن الله تعالى ذكره أوعد قوما قبلها على معصيتهم إياه إن عصوه أذاقهم السوء في الدنيا ، والعذاب في الآخرة ، فقال تعالى ( ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ) فهذا لهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم ، فهذا لهم في الآخرة . ثم أتبع ذلك لمن أوفى بعهد الله وأطاعه فقال تعالى : ما عندكم في الدنيا ينفد ، وما عند الله باق ، فالذي هذه السيئة بحكمته أن يعقب ذلك الوعد لأهل طاعته بالإحسان في الدنيا ، والغفران في الآخرة ، وكذلك فعل تعالى ذكره .

وأما القول الذي روي عن ابن عباس أنه الرزق الحلال ، فهو محتمل أن يكون معناه الذي قلنا في ذلك ، من أنه تعالى يقنعه في الدنيا بالذي يرزقه من الحلال ، وإن قل فلا تدعوه نفسه إلى الكثير منه من غير حله . لا أنه يرزقه الكثير من الحلال ، وذلك أن أكثر العاملين لله تعالى بما يرضاه من الأعمال لم نرهم رزقوا الرزق الكثير من الحلال في الدنيا ، ووجدنا ضيق العيش عليهم أغلب من السعة .

وقوله : ( ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) فذلك لا شك أنه في الآخرة . وكذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس ( ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) قال : إذا صاروا إلى الله جزاهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي مالك ، وأبي الربيع ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن سميع ، [ ص: 293 ] عن أبي الربيع ، عن ابن عباس ( ولنجزينهم أجرهم ) قال : في الآخرة .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي الربيع ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) يقول : يجزيهم أجرهم في الآخرة بأحسن ما كانوا يعملون .

وقيل : إن هذه الآية نزلت بسبب قوم من أهل ملل شتى تفاخروا ، فقال أهل كل ملة منها : نحن أفضل ، فبين الله لهم أفضل أهل الملل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يعلى بن عبيد ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، قال : جلس ناس من أهل الأوثان وأهل التوراة وأهل الإنجيل ، فقال هؤلاء : نحن أفضل ، وقال هؤلاء : نحن أفضل ، فأنزل الله تعالى ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية