الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ( 98 ) إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ( 99 ) إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ( 100 ) )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإذا كنت يا محمد قارئا القرآن ، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم . وكان بعض أهل العربية يزعم أنه من المؤخر الذي معناه التقديم . وكان معنى الكلام عنده : وإذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم ، فاقرأ القرآن ، ولا وجه لما قال من ذلك ، لأن ذلك لو كان كذلك لكان متى استعاذ مستعيذ من الشيطان الرجيم لزمه أن يقرأ القرآن ، ولكن معناه ما وصفناه ، وليس قوله ( فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) بالأمر اللازم ، وإنما هو إعلام وندب . وذلك أنه لا خلاف بين الجميع ، أن من قرأ [ ص: 294 ] القرآن ولم يستعذ بالله من الشيطان الرجيم . قبل قراءته أو بعدها أنه لم يضيع فرضا واجبا . وكان ابن زيد يقول في ذلك نحو الذي قلنا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) قال : فهذا دليل من الله تعالى دل عباده عليه .

وأما قوله ( إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ) فإنه يعني بذلك : أن الشيطان ليست له حجة على الذين آمنوا بالله ورسوله ، وعملوا بما أمر الله به وانتهوا عما نهاهم الله عنه ( وعلى ربهم يتوكلون ) يقول : وعلى ربهم يتوكلون فيما نابهم من مهمات أمورهم ( إنما سلطانه على الذين يتولونه ) يقول : إنما حجته على الذين يعبدونه ، ( والذين هم به مشركون ) يقول : والذين هم بالله مشركون .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( إنما سلطانه ) قال : حجته .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله ( إنما سلطانه على الذين يتولونه ) قال : يطيعونه .

واختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله لم يسلط فيه الشيطان على المؤمن .

فقال بعضهم بما حدثت عن واقد بن سليمان ، عن سفيان ، في قوله ( إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ) قال : ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر .

وقال آخرون : هو الاستعاذة ، فإنه إذا استعاذ بالله منع منه ، ولم يسلط عليه ، واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الله تعالى : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ) وقد ذكرنا الرواية بذلك في سورة الحجر .

[ ص: 295 ] وقال آخرون في ذلك ، بما حدثني به المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله ( إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ) إلى قوله ( والذين هم به مشركون ) يقال : إن عدو الله إبليس قال ( لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) فهؤلاء الذين لم يجعل للشيطان عليهم سبيل ، وإنما سلطانه على قوم اتخذوه وليا ، وأشركوه في أعمالهم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ) يقول : السلطان على من تولى الشيطان وعمل بمعصية الله .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( إنما سلطانه على الذين يتولونه ) يقول : الذين يطيعونه ويعبدونه .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا فاستعاذوا بالله منه ، بما ندب الله تعالى ذكره من الاستعاذة ( وعلى ربهم يتوكلون ) على ما عرض لهم من خطراته ووساوسه .

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية ، لأن الله تعالى ذكره أتبع هذا القول ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) وقال في موضع آخر : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ) فكان بينا بذلك أنه إنما ندب عباده إلى الاستعاذة منه في هذه الأحوال ليعيذهم من سلطانه .

وأما قوله ( والذين هم به مشركون ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم فيه بما قلنا إن معناه : والذين هم بالله مشركون .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله ( والذين هم به مشركون ) قال : يعدلون برب العالمين .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، [ ص: 296 ] عن مجاهد ( والذين هم به مشركون ) قال : يعدلون بالله .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله ( والذين هم به مشركون ) عدلوا إبليس بربهم ، فإنهم بالله مشركون .

وقال آخرون : معنى ذلك : والذين هم به مشركون ، أشركوا الشيطان في أعمالهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ( والذين هم به مشركون ) أشركوه في أعمالهم .

والقول الأول ، أعني قول مجاهد ، أولى القولين في ذلك بالصواب ، وذلك أن الذين يتولون الشيطان إنما يشركونه بالله في عبادتهم وذبائحهم ومطاعمهم ومشاربهم ، لا أنهم يشركون بالشيطان . ولو كان معنى الكلام ما قاله الربيع ، لكان التنزيل : الذين هم مشركوه ، ولم يكن في الكلام به ، فكان يكون لو كان التنزيل كذلك ، والذين هم مشركوه في أعمالهم ، إلا أن يوجه موجه معنى الكلام ، إلى أن القوم كانوا يدينون بألوهة الشيطان ، ويشركون الله به في عبادتهم إياه ، فيصح حينئذ معنى الكلام ، ويخرج عما جاء التنزيل به في سائر القرآن ، وذلك أن الله تعالى وصف المشركين في سائر سور القرآن أنهم أشركوا بالله ، ما لم ينزل به عليهم سلطانا ، وقال في كل موضع تقدم إليهم بالزجر عن ذلك ، لا تشركوا بالله شيئا ، ولم نجد في شيء من التنزيل : لا تشركوا الله بشيء ، ولا في شيء من القرآن . خبرا من الله عنهم أنهم أشركوا الله بشيء فيجوز لنا توجيه معنى قوله ( والذين هم به مشركون ) إلى والذين هم بالشيطان مشركو الله . فبين إذا إذ كان ذلك كذلك ، أن الهاء في قوله ( والذين هم به ) عائدة على الرب في قوله ( وعلى ربهم يتوكلون ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية