الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت )

قال أبو جعفر : اختلف أهل العلم في تأويل "ما" التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين ) . فقال بعضهم : معناه الجحد ، وهي بمعنى "لم" .

ذكر من قال ذلك :

1670 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) فإنه يقول : لم ينزل الله السحر .

1671 - حدثنا ابن حميد قال : حدثني حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس : ( وما أنزل على الملكين ) ، قال : ما أنزل الله عليهما السحر .

فتأويل الآية - على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع ، من توجيههما معنى قوله : ( وما أنزل على الملكين ) إلى : ولم ينزل على الملكين - : واتبعوا الذي تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر ، وما كفر سليمان ، ولا أنزل الله السحر على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر "ببابل هاروت وماروت" . فيكون حينئذ قوله : " ( ببابل هاروت وماروت ) ، من المؤخر الذي معناه التقديم . [ ص: 420 ]

فإن قال لنا قائل : وكيف - وجه تقديم ذلك؟

قيل : وجه تقديمه أن يقال : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان [ من السحر ] ، وما أنزل [ الله السحر ] على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل ، هاروت وماروت - فيكون معنيا ب "الملكين" : جبريل وميكائيل ، لأن سحرة اليهود ، فيما ذكر ، كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ، فأكذبها الله بذلك ، وأخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط ، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر ، فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ، وأنها تعلم الناس [ ذلك ] ببابل ، وأن اللذين يعلمانهم ذلك رجلان : اسم أحدهما هاروت ، واسم الآخر ماروت . فيكون " هاروت وماروت " ، على هذا التأويل ، ترجمة على "الناس" وردا عليهم .

وقال آخرون : بل تأويل "ما" التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين ) - "الذي" .

ذكر من قال ذلك :

1672 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : قال معمر ، قال قتادة والزهري عن عبد الله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، كانا ملكين من الملائكة ، فأهبطا ليحكما بين الناس ، وذلك أن الملائكة سخروا من أحكام بني آدم . قال : فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها ، ثم ذهبا يصعدان ، فحيل بينهما وبين ذلك ، وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا . قال معمر ، قال قتادة : فكانا يعلمان الناس السحر ، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا : "إنما نحن فتنة فلا تكفر" . [ ص: 421 ]

1673 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، فهذا سحر آخر خاصموه به أيضا . يقول : خاصموه بما أنزل على الملكين ، وأن كلام الملائكة فيما بينهم ، إذا علمته الإنس فصنع وعمل به ، كان سحرا .

1674 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) . فالسحر سحران : سحر تعلمه الشياطين ، وسحر يعلمه هاروت وماروت .

1675 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، قال : التفريق بين المرء وزوجه .

1676 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ) ، فقرأ حتى بلغ : ( فلا تكفر ) ، قال : الشياطين والملكان يعلمون الناس السحر .

قال أبو جعفر : فمعنى الآية على تأويل هذا القول الذي ذكرنا عمن ذكرناه عنه : واتبعت اليهود الذي تلت الشياطين في ملك سليمان الذي أنزل على الملكين ببابل وهاروت وماروت ، وهما ملكان من ملائكة الله ، سنذكر ما روي من الأخبار في شأنهما إن شاء الله تعالى .

قال أبو جعفر إن قال لنا قائل : وهل يجوز أن ينزل الله السحر ، أم [ ص: 422 ] هل يجوز لملائكته أن تعلمه الناس ؟

قلنا له : إن الله عز وجل قد أنزل الخير والشر كله ، وبين جميع ذلك لعباده ، فأوحاه إلى رسله ، وأمرهم بتعليم خلقه وتعريفهم ما يحل لهم مما يحرم عليهم . وذلك كالزنا والسرقة وسائر المعاصي التي عرفهموها ، ونهاهم عن ركوبها . فالسحر أحد تلك المعاصي التي أخبرهم بها ، ونهاهم عن العمل بها .

وليس في العلم بالسحر إثم ، كما لا إثم في العلم بصنعة الخمر ونحت الأصنام والطنابير والملاعب . وإنما الإثم في عمله وتسويته . وكذلك لا إثم في العلم بالسحر ، وإنما الإثم في العمل به ، وأن يضر به ، من لا يحل ضره به .

فليس في إنزال الله إياه على الملكين ، ولا في تعليم الملكين من علماه من الناس ، إثم ، إذ كان تعليمهما من علماه ذلك ، بإذن الله لهما بتعليمه ، بعد أن يخبراه بأنهما فتنة ، وينهاه عن السحر والعمل به والكفر . وإنما الإثم على من يتعلمه منهما ويعمل به ، إذ كان الله تعالى ذكره قد نهاه عن تعلمه والعمل به . ولو كان الله أباح لبني آدم أن يتعلموا ذلك ، لم يكن من تعلمه حرجا ، كما لم يكونا حرجين لعلمهما [ ص: 423 ] به؛ إذ كان علمهما بذلك عن تنزيل الله إليهما .

وقال آخرون : معنى "ما" معنى "الذي" ، وهي عطف على "ما" الأولى . غير أن الأولى في معنى السحر ، والآخرة في معنى التفريق بين المرء وزوجه .

فتأويل الآية على هذا القول : واتبعوا السحر الذي تتلو الشياطين في ملك سليمان ، والتفريق الذي بين المرء وزوجه الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت .

ذكر من قال ذلك :

1677 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، وهما يعلمان ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، وذلك قول الله جل ثناؤه : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) . وكان يقول : أما السحر ، فإنما يعلمه الشياطين ، وأما الذي يعلم الملكان ، فالتفريق بين المرء وزوجه ، كما قال الله تعالى .

وقال آخرون : جائز أن تكون "ما" بمعنى "الذي" ، وجائز أن تكون "ما" بمعنى "لم" .

ذكر من قال ذلك :

1678 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدثني الليث بن سعد ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد - وسأله رجل عن قول الله : ( يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) فقال الرجل : يعلمان الناس ما أنزل عليهما ، أم يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما؟ قال القاسم : ما أبالي أيتهما كانت .

1679 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : حدثنا أنس بن عياض ، عن [ ص: 424 ] بعض أصحابه ، أن القاسم بن محمد سئل عن قول الله تعالى ذكره : ( وما أنزل على الملكين ) ، فقيل له : أأنزل أو لم ينزل؟ فقال : لا أبالي أي ذلك كان ، إلا أني آمنت به . .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، قول من وجه "ما" التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين ) إلى معنى "الذي" ، دون معنى "ما" التي هي بمعنى الجحد . وإنما اخترت ذلك ، من أجل أن "ما" إن وجهت إلى معنى الجحد ، تنفي عن "الملكين" أن يكونا منزلا إليهما ، ولم يخل الاسمان اللذان بعدهما - أعني "هاروت وماروت" - من أن يكونا بدلا منهما وترجمة عنهما أو بدلا من "الناس" في قوله : ( يعلمون الناس السحر ) ، وترجمة عنهم . فإن جعلا بدلا من "الملكين" وترجمة عنهما ، بطل معنى قوله : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) ؛ لأنهما إذا لم يكونا عالمين بما يفرق به بين المرء وزوجه ، فما الذي يتعلم منهما من يفرق بين المرء وزوجه؟ [ ص: 425 ]

وبعد ، فإن "ما" التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين ) ، إن كانت في معنى الجحد عطفا على قوله : ( وما كفر سليمان ) ، فإن الله جل ثناؤه نفى بقوله : ( وما كفر سليمان ) ، عن سليمان أن يكون السحر من عمله أو من علمه أو تعليمه ، فإن كان الذي نفي عن الملكين من ذلك نظير الذي نفي عنسليمان منه - وهاروت وماروت هما الملكان - فمن المتعلم منه إذا ما يفرق به بين المرء وزوجه؟ وعمن الخبر الذي أخبر عنه بقوله : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) ؟ إن خطأ هذا القول لواضح بين .

وإن كان قوله "هاروت وماروت" ترجمة عن "الناس" الذين في قوله : ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) ، فقد وجب أن تكون الشياطين هي التي تعلم هاروت وماروت السحر ، وتكون السحرة إنما تعلمت السحر من هاروت وماروت عن تعليم الشياطين إياهما! فإن يكن ذلك كذلك ، فلن يخلو "هاروت وماروت" - عند قائل هذه المقالة - من أحد أمرين :

إما أن يكونا ملكين ، فإن كانا عنده ملكين ، فقد أوجب لهما من الكفر بالله والمعصية له بنسبته إياهما إلى أنهما يتعلمان من الشياطين السحر ويعلمانه الناس ، وإصرارهما على ذلك ومقامهما عليه - أعظم مما ذكر عنهما أنهما أتياه من المعصية التي استحقا عليها العقاب! وفي خبر الله عز وجل عنهما - أنهما لا يعلمان أحدا ما يتعلم منهما حتى يقولا ( إنما نحن فتنة فلا تكفر ) - ما يغني عن الإكثار في الدلالة على خطأ هذا القول .

أو أن يكونا رجلين من بني آدم . فإن يكن ذلك كذلك ، فقد كان يجب أن يكونا بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلم به والعمل - من بني آدم ؛ لأنه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلم ، فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما ، عدم السبيل إلى الوصول إلى المعنى الذي كان لا يوصل إليه إلا بهما . [ ص: 426 ] وفي وجود السحر في كل زمان ووقت ، أبين الدلالة على فساد هذا القول . وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من بني آدم ، لم يعدما من الأرض منذ خلقت ، ولا يعدمان بعدما وجد السحر في الناس ، فيدعي ما لا يخفى بطوله .

فإذ فسدت هذه الوجوه التي دللنا على فسادها ، فبين أن معنى ( ما ) التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين ) بمعنى "الذي" ، وأن "هاروت وماروت" ، مترجم بهما عن الملكين ، ولذلك فتحت أواخر أسمائهما ، لأنهما في موضع خفض على الرد على "الملكين" . ولكنهما لما كانا لا يجران ، فتحت أواخر أسمائهما .

فإن التبس على ذي غباء ما قلنا فقال : وكيف يجوز لملائكة الله أن تعلم الناس التفريق بين المرء وزوجه؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلى الله تبارك وتعالى إنزال ذلك على الملائكة؟

قيل له : إن الله - جل ثناؤه - عرف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه ، ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه . ولو كان الأمر على غير ذلك ، لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم . فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم عنه ، فغير منكر أن يكون - جل ثناؤه - علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله ، وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم - كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلم ذلك منهما : ( إنما نحن فتنة فلا تكفر ) - ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه ، وعن السحر ، فيمحص المؤمن بتركه التعلم منهما ، ويخزي الكافر بتعلمه السحر والكفر منهما ، ويكون الملكان في تعليمهما من علما ذلك - لله مطيعين ، إذ كانا عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه يعلمان . وقد عبد من دون الله جماعة من أولياء الله ، فلم يكن ذلك لهم ضائرا ، [ ص: 427 ] إذ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به ، بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناه ، فكذلك الملكان ، غير ضائرهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما ، بعد نهيهما إياه عنه ، وعظتهما له بقولهما : ( إنما نحن فتنة فلا تكفر ) ، إذ كانا قد أديا ما أمرا به بقيلهما ذلك ، كما : -

1680 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن في قوله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) إلى قوله : ( فلا تكفر ) ، أخذ عليهما ذلك .

ذكر بعض الأخبار التي في بيان الملكين ، ومن قال إن هاروت وماروت هما الملكان اللذان ذكر الله جل ثناؤه في قوله : ( ببابل ) :

1681 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثني أبي ، عن قتادة قال : حدثنا أبو شعبة العدوي في جنازة يونس بن جبير أبي غلاب ، عن ابن عباس قال : إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم ، فلما أبصروهم يعملون الخطايا قالوا : يا رب ، هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك ، وأسجدت له ملائكتك ، وعلمته أسماء كل شيء ، يعملون بالخطايا! قال : أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم . قالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا! قال : فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض ، قال : فاختاروا هاروت وماروت . فأهبطا إلى الأرض ، وأحل لهما ما فيها من شيء ، غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا ، ولا يزنيا ، ولا يشربا الخمر ، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق . قال : فما استمرا حتى عرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن ، يقال لها : " بيذخت " فلما أبصراها أرادا بها زنا ، فقالت : لا إلا أن تشركا بالله ، وتشربا الخمر ، وتقتلا النفس ، وتسجدا لهذا الصنم! فقالا : ما كنا لنشرك بالله شيئا! فقال أحدهما [ ص: 428 ] للآخر : ارجع إليها . فقالت : لا إلا أن تشربا الخمر ، فشربا حتى ثملا ودخل عليهما سائل فقتلاه ، فلما وقعا فيما وقع من الشر ، أفرج الله السماء لملائكته ، فقالوا : سبحانك! كنت أعلم! قال : فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت ، وجعلا ببابل .

1682 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا حجاج ، عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان النهدي ، عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا : لما كثر بنو آدم وعصوا ، دعت الملائكة عليهم والأرض والسماء والجبال : ربنا ألا تهلكهم! فأوحى الله إلى الملائكة : إني لو أنزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ونزلتم لفعلتم أيضا! قال : فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا ، فأوحى الله إليهم : أن اختاروا ملكين من أفضلكم ، فاختاروا هاروت وماروت ، فأهبطا إلى الأرض ، وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس ، وكان أهل فارس يسمونها " بيذخت " . قال : فوقعا بالخطيئة ، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا . ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا ) . فلما وقعا بالخطيئة ، استغفروا لمن في الأرض ، ألا إن الله هو الغفور الرحيم . فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا . [ ص: 429 ]

1683 - حدثني المثنى قال : حدثني الحجاج قال : حدثنا حماد ، عن خالد الحذاء ، عن عمير بن سعيد قال ، سمعت عليا يقول : كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس ، وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت ، فراوداها عن نفسها ، فأبت إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به يعرج به إلى السماء . فعلماها ، فتكلمت به ، فعرجت إلى السماء ، فمسخت كوكبا .

1684 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا : حدثنا مؤمل بن إسماعيل - وحدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق - جميعا ، عن الثوري ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن كعب قال : ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب ، فقيل لهم : اختاروا منكم اثنين - وقال الحسن بن يحيى في حديثه : اختاروا ملكين - فاختاروا هاروت وماروت ، فقيل لهما : إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول ، انزلا لا تشركا بي شيئا ، ولا تزنيا ، ولا تشربا الخمر . قال كعب : فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه إلى الأرض حتى استكملا جميع ما نهيا عنه - وقال الحسن بن يحيى في حديثه : فما استكملا يومهما الذي أنزلا فيه حتى عملا ما حرم الله عليهما . [ ص: 430 ]

1685 - حدثني المثنى قال : حدثنا معلى بن أسد قال : حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن موسى بن عقبة قال : حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار أنه حدث : أن الملائكة أنكروا أعمال بني آدم وما يأتون في الأرض من المعاصي ، فقال الله لهم : إنكم لو كنتم مكانهم أتيتم ما يأتون من الذنوب ، فاختاروا منكم ملكين . فاختاروا هاروت وماروت ، فقال الله لهما : إني أرسل رسلي إلى الناس ، وليس بيني وبينكما رسول ، انزلا إلى الأرض ، ولا تشركا بي شيئا ، ولا تزنيا . فقال كعب : والذي نفس كعب بيده ، ما استكملا يومهما الذي نزلا فيه حتى أتيا ما حرم الله عليهما . [ ص: 431 ]

1686 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أنه كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم ، فقيل لهما : إني أعطيت ابن آدم عشرا من الشهوات ، فبها يعصونني . قال هاروت وماروت : ربنا ، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل ، فقال لهما : انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر ، فاحكما بين الناس . فنزلا ببابل دنباوند ، فكانا يحكمان ، حتى إذا أمسيا عرجا فإذا أصبحا هبطا ، فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها ، فأعجبهما حسنها - واسمها بالعربية ، " الزهرة " ، وبالنبطية "بيذخت" ، واسمها بالفارسية "أناهيذ" - فقال أحدهما لصاحبه : إنها لتعجبني! فقال الآخر : قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك! فقال : الآخر : هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال : نعم ، ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر : إنا نرجو رحمة الله! فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها ، فقالت : لا حتى تقضيا لي على زوجي ، فقضيا لها على زوجها ، ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها ، فأتياها لذلك ، فلما أراد الذي يواقعها ، قالت : ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء ، وبأي كلام تنزلان منها؟ فأخبراها ، فتكلمت فصعدت ، فأنساها الله ما تنزل به فبقيت مكانها ، وجعلها الله كوكبا - فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال : هذه التي فتنت هاروت وماروت ! - فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يستطيعا ، فعرفا الهلك ، فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا من عذاب الآخرة ، فعلقا ببابل ، فجعلا يكلمان الناس كلامهما ، وهو السحر .

1687 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : لما وقع الناس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من [ ص: 432 ] المعاصي والكفر بالله ، قالت الملائكة في السماء : أي رب ، هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك ، وقد ركبوا الكفر ، وقتل النفس الحرام ، وأكل المال الحرام ، والسرقة ، والزنا ، وشرب الخمر! فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم ، فقيل لهم : إنهم في غيب؛ فلم يعذروهم ، فقيل لهم : اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري وأنهاهما عن معصيتي ، فاختاروا هاروت وماروت ، فأهبطا إلى الأرض ، وجعل بهما شهوات بني آدم ، وأمرا أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئا ، ونهيا عن قتل النفس الحرام ، وأكل المال الحرام ، والسرقة ، والزنا ، وشرب الخمر ، فلبثا على ذلك في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق - وذلك في زمان إدريس . وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكواكب ، وأنها أتت عليهما ، فخضعا لها بالقول ، وأراداها على نفسها ، وأنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها ، وأنهما سألاها عن دينها التي هي عليه ، فأخرجت لهما صنما وقالت : هذا أعبد . فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا! فذهبا فغبرا ما شاء الله ، ثم أتيا عليها فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها ، فقالت : لا إلا أن تكونا على ما أنا عليه . فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا! فلما رأت أنهما أبيا أن يعبدا الصنم ، قالت لهما : اختارا إحدى الخلال الثلاث : إما أن تعبدا الصنم ، أو تقتلا النفس ، أو تشربا الخمر . فقالا : كل هذا لا ينبغي ، وأهون الثلاثة شرب الخمر ، فسقتهما الخمر ، حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها ، فمر بهما إنسان ، وهما في ذلك ، فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه . فلما أن ذهب عنهما السكر ، عرفا ما وقعا فيه من الخطيئة ، وأرادا أن يصعدا إلى السماء ، فلم يستطيعا ، [ ص: 433 ] فحيل بينهما وبين ذلك ، وكشف الغطاء بينهما وبين أهل السماء ، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه من الذنب ، فعجبوا كل العجب ، وعلموا أن من كان في غيب فهو أقل خشية فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض - وأنهما لما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة ، قيل لهما : اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة! فقالا : أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له؛ فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلا ببابل ، فهما يعذبان .

1688 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا فرج بن فضالة ، عن معاوية بن صالح ، عن نافع قال : سافرت مع ابن عمر ، فلما كان من آخر الليل قال : يا نافع انظر ، طلعت الحمراء؟ قلت : لا - مرتين أو ثلاثا - ثم قلت : قد طلعت! قال : لا مرحبا ولا أهلا! قلت : سبحان الله ، نجم مسخر سامع مطيع! قال : ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الملائكة قالت : يا رب ، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال : إني ابتليتهم وعافيتكم ، قالوا : لو كنا مكانهم ما عصيناك! قال : فاختاروا ملكين منكم! قال : فلم يألوا أن يختاروا ، فاختاروا هاروت وماروت . [ ص: 434 ]

1689 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وأما شأن هاروت وماروت ، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم ، وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات . فقال لهم ربهم : اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم . فاختاروا هاروت وماروت . فقال لهما حين أنزلهما : عجبتما من بني آدم ومن ظلمهم ومعصيتهم ، وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء ، وأنتما ليس بيني وبينكما رسول ، فافعلا كذا وكذا ، ودعا كذا وكذا . فأمرهما بأمر ونهاهما . ثم نزلا على ذلك ليس أحد لله أطوع منهما . فحكما [ ص: 435 ] فعدلا . فكانا يحكمان النهار بين بني آدم ، فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الملائكة ، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان ، حتى أنزلت عليهما الزهرة - في أحسن صورة امرأة - تخاصم ، فقضيا عليها ، فلما قامت ، وجد كل واحد منهما في نفسه ، فقال أحدهما لصاحبه : وجدت مثل ما وجدت؟ قال : نعم ، فبعثا إليها : أن ائتينا نقض لك ، فلما رجعت ، قالا لها - وقضيا لها - : ائتينا! فأتتهما ، فكشفا لها عن عورتهما ، وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما ، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذاتها ، فلما بلغا ذلك واستحلاه وافتتنا ، طارت الزهرة فرجعت حيث كانت ، فلما أمسيا عرجا فردا ولم يؤذن لهما ، ولم تحملهما أجنحتهما ، فاستغاثا برجل من بني آدم ، فأتياه فقالا ادع لنا ربك! فقال : كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا : سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء! فوعدهما يوما ، وغدا يدعو لهما ، فدعا لهما فاستجيب له ، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فنظر أحدهما إلى صاحبه ، فقالا : نعلم أن أنواع عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد ، ومع الدنيا سبع مرات مثلها ، فأمرا أن ينزلا ببابل ، فثم عذابهما . وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان ، يصفقان بأجنحتهما .

قال أبو جعفر : وحكي عن بعض القراء أنه كان يقرأ : ) وما أنزل على الملكين ) ، يعني به رجلين من بني آدم . وقد دللنا على خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال ، فأما من جهة النقل ، فإجماع الحجة - على خطأ القراءة بها - من [ ص: 436 ] الصحابة والتابعين وقراء الأمصار ، وكفى بذلك شاهدا على خطئها .

وأما قوله ( ببابل ) ، فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض . وقد اختلف أهل التأويل فيها ، فقال بعضهم : إنها " بابل دنباوند " .

1690 - حدثني بذلك موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي .

وقال بعضهم : بل ذلك" بابل العراق " .

ذكر من قال ذلك :

1691 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة - في قصة ذكرتها عن امرأة قدمت المدينة ، فذكرت أنها صارت في العراق ببابل ، فأتت بها هاروت وماروت ، فتعلمت منهما السحر .

قال أبو جعفر : واختلف في معنى السحر ، فقال بعضهم : هو خدع ومخاريق ومعان يفعلها الساحر ، حتى يخيل إلى المسحور الشيء أنه بخلاف ما هو به ، نظير الذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء ، ويرى الشيء من بعيد فيثبته بخلاف ما هو على حقيقته ، وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما عاين من الأشجار والجبال سائر معه! قالوا : فكذلك المسحور ذلك صفته ، يحسب بعد الذي وصل إليه من سحر الساحر ، أن الذي يراه أو يفعله بخلاف الذي هو به على حقيقته ، كالذي : - [ ص: 437 ]

1692 - حدثني أحمد بن الوليد وسفيان بن وكيع ، قالا : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سحر ، كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله .

1693 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن نمير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت ، سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم ، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله . [ ص: 438 ]

1694 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : كان عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب يحدثان : أن يهود بني زريق عقدوا عقد سحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلوها في بئر حزم ، حتى كان رسول الله ينكر بصره ، ودله الله على ما صنعوا ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر حزم التي فيها العقد فانتزعها ، فكان [ ص: 439 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سحرتني يهود بني زريق .

وأنكر قائل هذه المقالة أن يكون الساحر يقدر بسحره على قلب شيء عن حقيقته ، واستسخار شيء من خلق الله - إلا نظير الذي يقدر عليه من ذلك سائر بني آدم - أو إنشاء شيء من الأجسام سوى المخاريق والخدع المتخيلة لأبصار الناطرين بخلاف حقائقها التي وصفنا . وقالوا : لو كان في وسع السحرة إنشاء الأجسام وقلب حقائق الأعيان عما هي به من الهيئات ، لم يكن بين الحق والباطل فصل ، ولجاز أن تكون جميع المحسوسات مما سحرته السحرة فقلبت أعيانها . قالوا : وفي وصف الله جل وعز سحرة فرعون بقوله : ( فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) [ سورة طه : 66 ] ، وفي خبر عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذ سحر يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله ، أوضح الدلالة على بطول دعوى المدعين : أن الساحر ينشئ أعيان الأشياء بسحره ، ويستسخر ما يتعذر استسخاره على غيره من بني آدم ، كالموات والجماد والحيوان ، وصحة ما قلنا .

وقال آخرون : قد يقدر الساحر بسحره أن يحول الإنسان حمارا ، وأن يسحر الإنسان والحمار ، وينشئ أعيانا وأجساما ، واعتلوا في ذلك بما : -

1695 - حدثنا به الربيع بن سليمان قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرنا ابن أبي الزناد قال : حدثني هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة زوج [ ص: 440 ] النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل ، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك ، تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به . قالت عائشة لعروة : يا ابن أختي ، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها ، كانت تبكي حتى إني لأرحمها! وتقول : إني لأخاف أن أكون قد هلكت! كان لي زوج فغاب عني ، فدخلت علي عجوز فشكوت ذلك إليها ، فقالت : إن فعلت ما آمرك به ، فأجعله يأتيك! فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين ، فركبت أحدهما وركبت الآخر ، فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل ، فإذا برجلين معلقين بأرجلهما ، فقالا : ما جاء بك؟ فقلت : أتعلم السحر؟ فقالا : إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي ، فأبيت وقلت : لا ، قالا : فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه ، فذهبت ففزعت فلم أفعل ، فرجعت إليهما ، فقالا : أفعلت؟ قلت : نعم . فقالا : فهل رأيت شيئا؟ قلت : لم أر شيئا! فقالا لي : لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأرببت وأبيت ، فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه ، فذهبت ، فاقشعررت ، ثم رجعت إليهما فقلت : قد فعلت ، فقالا : فما رأيت؟ [ ص: 441 ] فقلت : لم أر شيئا . فقالا : كذبت لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري ، فإنك على رأس أمرك! فأرببت وأبيت ، فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه . فذهبت إليه فبلت فيه ، فرأيت فارسا متقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء ، وغاب عني حتى ما أراه ، فجئتهما فقلت : قد فعلت! فقالا : ما رأيت؟ فقلت : فارسا متقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه ، فقالا : صدقت ، ذلك إيمانك خرج منك ، اذهبي! فقلت للمرأة : والله ما أعلم شيئا! وما قالا لي شيئا! فقالت : بلى ، لن تريدي شيئا إلا كان! خذي هذا القمح فابذري ، فبذرت ، وقلت : أطلعي! فأطلعت ، وقلت : أحقلي! فأحقلت ، ثم قلت : أفركي! فأفركت ، ثم قلت : أيبسي! فأيبست ، ثم قلت : أطحني! فأطحنت ، ثم قلت : أخبزي ، فأخبزت ، فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان ، سقط في يدي وندمت والله يا أم المؤمنين! والله ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا . [ ص: 442 ]

قال أهل هذه المقالة بما وصفنا ، واعتلوا بما ذكرنا ، وقالوا : لولا أن الساحر يقدر على فعل ما ادعى أنه يقدر على فعله ، ما قدر أن يفرق بين المرء وزوجه . قالوا : وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، وذلك لو كان على غير الحقيقة ، وكان على وجه التخييل والحسبان ، لم يكن تفريقا على صحة ، وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يفرقون على صحة .

وقال آخرون : بل "السحر" أخذ بالعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية