الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ( 104 ) )

يقول تعالى ذكره : لا يحزنهم الفزع الأكبر يوم نطوي السماء ، ف " يوم " صلة من " يحزنهم " . [ ص: 543 ] واختلف أهل التأويل في معنى السجل الذي ذكره الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هو اسم ملك من الملائكة .

ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، قال : ثنا أبو الوفاء الأشجعي ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، في قوله ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ) قال : السجل : ملك ، فإذا صعد بالاستغفار قال : اكتبها نورا .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، قال : سمع السدي يقول في قوله ( يوم نطوي السماء كطي السجل ) قال : السجل ملك .

وقال آخرون : السجل : رجل كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك : حدثنا نصر بن علي ، قال : ثنا نوح بن قيس ، قال : ثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس في هذه الآية ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ) قال : كان ابن عباس يقول : هو الرجل .

قال : ثنا نوح بن قيس ، قال : ثنا يزيد بن كعب ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، قال : السجل : كاتب كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال آخرون : بل هو الصحيفة التي يكتب فيها .

ذكر من قال ذلك : حدثني علي قال : ثنا عبد الله قال : ثني معاوية ، عن علي عن ابن عباس قوله ( كطي السجل للكتاب ) يقول : كطي الصحيفة على الكتاب .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قالا ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب ) يقول : كطي الصحف .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن [ ص: 544 ] مجاهد ، قال : السجل : الصحيفة .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب ) قال : السجل : الصحيفة .

وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال : السجل في هذا الموضع الصحيفة ، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب ، ولا يعرف لنبينا صلى الله عليه وسلم كاتب كان اسمه السجل ، ولا في الملائكة ملك ذلك اسمه .

فإن قال قائل : وكيف نطوي الصحيفة بالكتاب إن كان السجل صحيفة ؟ قيل : ليس المعنى كذلك ، وإنما معناه : يوم نطوي السماء كطي السجل على ما فيه من الكتاب ، ثم جعل نطوي مصدرا ، فقيل ( كطي السجل للكتاب ) واللام في قوله للكتاب بمعنى على .

واختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الأمصار ، سوى أبي جعفر القارئ ( يوم نطوي السماء ) بالنون ، وقرأ ذلك أبو جعفر " يوم تطوى السماء " بالتاء وضمها ، على وجه ما لم يسم فاعله .

والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الأمصار ، بالنون ، لإجماع الحجة من القراء عليه وشذوذ ما خالفه . وأما السجل فإنه في قراءة جميعهم بتشديد اللام ، وأما الكتاب ، فإن قراء أهل المدينة وبعض أهل الكوفة والبصرة قرءوه بالتوحيد ، كطي السجل للكتاب ، وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة ( للكتب ) على الجماع .

وأولى القراءتين عندنا في ذلك بالصواب قراءة من قرأه على التوحيد للكتاب لما ذكرنا من معناه ، فإن المراد منه : كطي السجل على ما فيه مكتوب ، فلا وجه إذ كان ذلك معناه لجميع الكتب إلا وجها نتبعه من معروف كلام العرب ، وعند قوله ( كطي السجل ) انقضاء الخبر عن صلة قوله ( لا يحزنهم الفزع الأكبر ) ، ثم ابتدأ الخبر عما الله فاعل بخلقه يومئذ فقال تعالى ذكره ( كما بدأنا أول خلق نعيده ) .

فالكاف التي في قوله ( كما ) من صلة نعيد ، تقدمت قبلها ، ومعنى الكلام : نعيد الخلق عراة حفاة غرلا يوم القيامة ، كما بدأناهم أول مرة في حال خلقناهم في بطون أمهاتهم ، على اختلاف من أهل التأويل [ ص: 545 ] في تأويل ذلك .

وبالذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل ، وبه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلذلك اخترت القول به على غيره .

ذكر من قال ذلك والأثر الذي جاء فيه : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى - وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( أول خلق نعيده ) قال : حفاة عراة غرلا .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله ( أول خلق نعيد ) قال : حفاة غلفا ، قال ابن جريج أخبرني إبراهيم بن ميسرة ، أنه سمع مجاهدا يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحدى نسائه : " يأتونه حفاة عراة غلفا ، فاستترت بكم درعها ، وقالت وا سوأتاه " قال ابن جريج : أخبرت أنها عائشة قالت : يا نبي الله ، لا يحتشم الناس بعضهم بعضا ؟ قال : " لكل امرئ يومئذ شأن يغنيه " .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثني المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يحشر الناس حفاة عراة غزلا فأول من يكسى إبراهيم " ثم قرأ ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ) .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا إسحاق بن يوسف ، قال : ثنا سفيان ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : " وقام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة ، فذكره نحوه " .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة عن المغيرة بن النعمان النخعي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره نحوه .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن شعبة قال : ثنا المغيرة بن النعمان النخعي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس نحوه .

حدثنا عيسى بن يوسف بن الطباع أبو يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن [ ص: 546 ] عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال : " إنكم ملاقو الله مشاة غرلا " .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن عائشة ، قالت : " دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي عجوز من بني عامر ، فقال : من هذه العجوز يا عائشة ؟ فقلت : إحدى خالاتي ، فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة ، فقال : إن الجنة لا يدخلها العجزة ، قالت : فأخذ العجوز ما أخذها ، فقال : إن الله ينشئهن خلقا غير خلقهن ، ثم قال : يحشرون حفاة عراة غلفا ، فقالت : حاش لله من ذلك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بلى إن الله قال : ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا ) . . . إلى آخر الآية ، فأول من يكسى إبراهيم خليل الله " .

حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : ثنا عبيد الله قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عطاء ، عن عقبة بن عامر الجهني ، قال : يجمع الناس في صعيد واحد ينفذهم البصر ، ويسمعهم الداعي حفاة عراة ، كما خلقوا أول يوم .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني عباد بن العوام ، عن هلال بن حبان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة مشاة غرلا قلت : يا أبا عبد الله ما الغرل ؟ قال : الغلف ، فقال بعض أزواجه : يا رسول الله ، أينظر بعضنا إلى بعض إلى عورته ؟ فقال لكل امرئ يومئذ ما يشغله عن النظر إلى عورة أخيه " ، قال هلال : قال سعيد بن جبير ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) قال : كيوم ولدته أمه ، يرد عليه كل شيء انتقص منه مثل يوم ولد .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : كما كنا ولا شيء غيرنا قبل أن نخلق شيئا ، كذلك نهلك الأشياء فنعيدها فانية ، حتى لا يكون شيء سوانا .

ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( كما بدأنا أول خلق نعيده ) . . . الآية ، قال : نهلك كل شيء كما كان أول مرة . وقوله ( وعدا علينا ) [ ص: 547 ] يقول : وعدناكم ذلك وعدا حقا علينا أن نوفي بما وعدنا ، إنا كنا فاعلي ما وعدناكم من ذلك أيها الناس ، لأنه قد سبق في حكمنا وقضائنا أن نفعله ، على يقين بأن ذلك كائن ، واستعدوا وتأهبوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية